لم تكن ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م، مجرد انبعاثة شعبية وعسكرية للانتقال من حكم إلى آخر، بل كانت خلاصًا حتميًا من مأساة بلغت حدود البشاعة بحق شعب بأكمله، لا تماثلها بشاعة في الأرض.
إن ثورة سبتمبر أياً كانت تصوراتها وأخطاؤها؛ لكنها كانت حلم الناس للحياة، كانت الفكاك من القيد، النفاذ من السجن، الهروب من الموت، التمرد على الفكر المتعفن، الذي لايرى سوى نفسه وسلالته وتصوراته الخاطئة عن الدين، التي لا تقبل لغيره بحياة كريمة..
لم يكن حكم الإمامة حكمًا فاسدًا، ولاحكمًا مليئًا بالأخطاء والتقصير نحو الشعب، لقد كان حكمًا آخر، لايرى أحداً بالمطلق، ولا يشعر بأحد من الأساس، كان يرى الناس والأرض والثروات حقه وحسب، وعلى كل هاته الأشياء أن تقبع تحت خدمته ورحمته للأبد ..
تأخرت ثورة سبتمبر كثيرًا، بموازاة حالة الظلم والعزلة المطبقة التي عاش فيها اليمنيون بعيدًا تمامًا عن العالم والحياة بقرون طويلة، رغم انهم يعيشون مع العالم في كوكب واحد، وفي الزمن عينه، لكنهم كما لو كانوا في عالم معزول تمامًا كالسجن يقف على بابه كاهن أجرب اسمه الإمام..
تأخرت الثورة لأنها كانت تختمر في جروح الناس وتستجمع من دمائهم قطرة قطرة، حتى فجرها المغمورون الشجعان، أما الساسة أصحاب الأفكار والتصورات فكانوا حينها بعيدين، يجرون الموازنات بين الأولويات والتراتبية، وإن كان تأثيرهم مسبق لايُنكر ولاحق لايُغفل، لكن أصحاب الفضل والبدار هم أصحاب السواعد، من أشعلوا النار بدءاً حتى تأججت.
واليوم يحتفل اليمنيون بسبتمبر، لأنها مستمرة، لمّا تقضي بعد على جحافل الكهنوت، فقد عادوا ياسبتمبر في سبتمبر، قد نقول الكثير عن ترهل الثورة وانحراف بوصلتها، أو عن قصورها في الانتقال إلى الحكم الرشيد، وتحقيق كل أهدافها على سهولتها، لكن مايجب أن يقال اليوم، إن ثورة سبتمبر اليمنية هي من أعظم الثورات وأطولها ليس بحجم حركتها ولا مقاييس الثورات الأخرى، بل بحجم المأساة التي خرجت منها، والظروف التي انتصرت عليها، ولأنها أيضًا ثورة تتمدد كل يوم في الذهنية اليمنية، بروافد الخلاص من كل كوابح الحياة الكريمة والكهنوت والدجالين والأعياء والخرافات الدينية، فلا يزال خصم الثورة يعمل، وكل خصوم الثورة هم كل أعداء الحياة والتحرر والتطور والنهوض والانفتاح والعلم، وكل من يريد حكم الشعب بفكرته وأنها الأصلح للحكم هو عدو سبتمبر، لأن سبتمبر قالت منذ أول يوم الحكم للشعب لا غيره.
وإذن؛ لا زالت مصائر هذا الشعب في مرمى سواعده وقدرته، فما تزال الظلامات كثيرة.
إن سبتمبر التي شارفت على الستين عامًا، تتجدد اليوم، بذات البواعث والأسباب، وأخال ألّا شعبًا عاش ثورة بكل هذا الامتداد ولمّا يهدأ بعد!
هذا مصيرنا كيمنيين، جبال من الأزمات والعناء، تقابلها جسارة وصمود محفورة في وجوهنا، تراها ولا تخطئ جروحنا، قد نجفل أعيننا ونتحسر، من خذلان أنفسنا وخذلان غيرنا، لكننا أهلٌ لكل هذا العناء، نعم نحن له .
لقد رمانا القدر بأرزأ المصيبات، فكنا الأجسر عليها، وسيبقى اليمنيون مهما تخطفتهم المصائب أشداء، سنبقى لنبهر العالم بانتصارنا الكبير، الانتصار المؤجل، لكنه سيكون الأثمن، بحجم معاناتنا التي هي أكبر من كل الشعوب، لأننا أقدرها جميعًا على التحمل والجلد؛ سيكون خلاصنا عظيم بعظمة ما نحقق.
أيها اليمنيون؛ مهما تجبر عليكم الحقد والظلم والأذى، فإنكم على موعد مع النهوض، شاء من شاء وأبى من أبى، يتأخر نصركم عندما يقودكم الضعفاء والخانعون، لكن كما انتبذ لسبتمبر عظماء من بين الصخور فسينضو لكم أمثالهم يوماً ما، وستصنعون يومًا تقولون فيه للعالم: نحن اليمانيون يا أيها الدنيا.. نعود بالعزم من مجدٍ إلى مجدِ.
ألم تكونوا أول الدنيا وفلتتها، فلتكونوا بذات الفخر والأمل ولا تنكسروا .
تحيا الجمهورية اليمنية.