الحديث هنا سيكون عن تأثير المتغيرات التي أحدثتها ما يمكن أن تسمى العاصفة الأفغانية على الإقليم الشرق أوسطي. وكالعادة، وصف أي حدث سوف يتبعه عدد غير قليل من انقسام الرأي، انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان ليس الوحيد، قوبل الانسحاب على الأقل بتيارين من التفكير في فضائنا العربي، تيار شامت وآخر قلق. تيار آخر ثالث انطلق من الغرب هو الساخر، فقد نقل في الغرب القول التالي: إذا كنت تشعر بأنك عديم الفائدة، فتذكر 20 عاماً وتريليونات من الدولارات وأربعة رؤساء جمهوريات من أجل إبدال «طالبان» بـ«طالبان».
هذه السخرية تكرر مثلها عند انسحاب الاتحاد السوفياتي، قيل وقتها إن القائد الميداني الروسي استنجد بوزير الدفاع، فقال له الوزير من موسكو، جنّد عمال المصانع! طبعاً لا يوجد مصانع في تلك البلاد. هناك عدد من الموضوعات ربما تحتاج إلى اجتهاد يتعدى ما يجري اليوم.
أولاً: هل تراجعت أميركا عن مشروعها في توسيع قاعدة الديمقراطية بشكل عام بسبب انسحابها، قد يبدو ذلك من خلال تصريح الرئيس جو بايدن «لم نذهب إلى أفغانستان لبناء الدولة»! أم أن ذلك التصريح تكتيكي، وقد دعت إدارته إلى مؤتمر دولي آخر العام للديمقراطيات في العالم! كما أن الإدارة ما زالت تتحدث عن حقوق الإنسان والحريات في الصين وروسيا وغيرها من البلدان، كيف يمكن موازنة هذا بذلك؟ في الغالب أن النظر إلى الحالة الأفغانية على أنها حالة خاصة، خرجت من تجربتها الدوائر الأميركية بأن التورط مباشرة في حروب وجنود على الأرض قد انتهت صلاحيتها، يبقى العمل من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية والدبلوماسية، وربما ذلك ما سوف نشهد في السنوات المقبلة من أجل التبشير بالمشروع الديمقراطي من دون استخدام «العصا الغليظة».
ثانياً: التدقيق في التحالفات التي تقيمها الولايات المتحدة والممكن ربطها من أجل تقدم المشروع الديمقراطي، هنا يحتاج المخطط الأميركي إلى تغيير تحالفاته الظاهرة أو الباطنة مع جماعات في الأصل غير ديمقراطية. فإعادة حسابات الربح والخسارة في ظل ظاهرة ما عرف بـ«الربيع العربي» والذي جرى تحالف، سابق مع جماعات لا تؤمن بفلسفة الحكم الرشيد والتداول السلمي للسلطة وجب وضع تلك التحالفات على طاولة النقاش، لقد ثبت أن ضيق التفكير في قطاع من الإدارة، وخاصة الديمقراطية، ساعد على تبديل السيئ في نظرهم بالأسوأ. يرُجع بعض الباحثين هذا القصور إلى ضعف في فهم قيم الآخرين وتطور الشعوب الاجتماعي والثقافي، ومحاولة تصدير النموذج الأميركي للديمقراطية يتجاوز حقائق على الأرض تحتاج إلى زمن وعوامل عديدة حتى تنضج؛ فالديمقراطية الغربية بآلياتها المعروفة لا يمكن أن تطبق في مجتمعات أخرى، حتى لو ظهر ذلك على السطح أنه ممكن؛ لأن الديمقراطية هي وسيلة لغايات أهم وليست غاية بحد ذاتها، فالحقوق الجماعية من ارتفاع مستوى المعيشة وتوفر فرص العمل والسلام الاجتماعي في بعض البيئات البشرية قد تكون متقدمة على الحقوق الفردية.
ثالثاً: الفرحة والشماتة من البعض تنمّ من طرف آخر على قصور في الفهم والتحليل، ذلك متوقع ولكنه يخاطب العاطفة وليس العقل، فتاريخ البشرية إلى تقدم وليس إلى تقهقر، والقول بتكرار نموذج «طالبان»، حتى لو استبشرت به القوى المتشددة، يقفز على كل المعطيات الموضوعية، حيث ساهمت في أحداث أفغانستان عدد من العناصر الطبيعية والبشرية والتاريخية لتنتج محصلتها ما أنتجت حتى الآن. وحتى ذلك الشكل من الموقف الفكري والعملي قد أصابه التحور ولا يستطيع أن يعيش أو يستمر في الإطار الذي رسمه قبل عشرين عاماً، ربما يأتي التحور تدريجي ولكنه واقع لا محالة، هذا لا يعني أن التحور سوف يفقده خصائصه، بل ستبقى فاقدة القدرة على الحكم الرشيد وربما يدخل النموذج بسبب فقد الرشادة في صراعات في داخليه وخارجيه، فالتحدي الرئيسي هو الاقتصاد.
رابعاً: التيار القلق قد يكون قلقه مبالَغاً فيه، ولكنه مبرر حتى الآن، وإلى الوقت الذي تظهر فيه معالم القادم في تلك البلاد التي ما زالت غامضة. وقد تنزلق الأمور إلى التشدد ونشهد من جديد إعادة صراع قد يتطور، ومن جانب آخر قد يرمم المشهد بكامله للوصول إلى حلول وسطى تحافظ على الأمن والسلامة في الداخل الأفغاني وفي الجوار والعالم، لكنه احتمال ضعيف.
خامساً: هناك تطور في آليات الديمقراطية في العالم الغربي بشكل عام، وقد بدأت نتائجها تظهر وتؤثر على السلام العالمي، ربما ذاك التطور بسبب الوضع الاقتصادي في تلك الدول، وملخصها كما في الأدبيات العامة «الاستدارة إلى اليمين»، وأيضاً معاداة الآخر، ويظهر ذلك بوضوح في الشعار الذي أوصل السيد دونالد ترمب إلى الرئاسة الأميركية عام 2016 «أميركا أولاً»، وكثير من القوى الأوروبية (الديمقراطية) تبدي عداءً للآخر وترى أن الاهتمام بأوضاعها الداخلية أولوية، وفي الأرقام تراجع ميزانيات المساعدات والإغاثة الدولية، فرأي الجمهور أو الرأي العام الغربي يضغط باتجاه التخلص من الأعباء الخارجية والالتفات إلى الداخل بسبب تنامي الطلب الاجتماعي على الخدمات والسلع التي يتوجب معها خفض كبير في نسب البطالة، ورفع الإنفاق على الخدمات العامة في تلك الدول. تلك الظاهرة تسمى اليوم «انتهاء عصر الاستعمار». بقي عدد قليل من السياسيين الغربيين الذين يقاومون ذلك التوجه ولكنهم في انقراض.
سادساً: لعلي أنتهي بما يهمنا في هذه المنطقة للقراءة الحصيفة للتطورات العالمية وفي الجوار والتي قد نشهد تأثيرها علينا، فمن أجل الحد من هذا وتحولاته في بيئة جزئياً مرحبة بانتشاره، وجب شد الرحال لما يتوجب علينا فعله lk دون تأخير، وهو ابتكار أساليب وطرق من أجل التعاون العربي في العديد من المجالات، وتنسيق السياسات بجدية ومسؤولية، بعيداً عن العاطفة أو الانزلاق إلى مشاحنات ومناكدات تتيح فرصاً لتسلل عوامل الاضطراب التي تعصف بالإقليم؛ لأنه ببساطة ما نفع من سياسات في الماضي لن يكون صالحاً للمستقبل.
آخر الكلام:
تاريخ البشرية مليء بالعنف بسبب التنافس على الموارد، أما إذا اختلط بالدين فهو يعني أن هناك فهماً خاطئاً ومعاكساً لرسالة الدين.
* نقلا عن الشرق الأوسط..