أربعين يوماً تمر علينا من رحيل والدنا القدوة والمعلم المناضل الشيخ علوي أحمد العواضي فقيد الوطن رحمة الله تغشاه.
أكتب هذه السطور وما زلت غير مستوعب رحيله عنا وفراقه لنا اللهم لا اعتراض على قضاك.
كان الوالد العزوة والسند ومدرسة نتعلم منها كل يوم، كان رحمه الله يحظى بعلاقات واسعة بناها طيلة حياته من خلال الصدق والوفاء والفزعة وقول الحق، لقد كنت أقرب أخواني له سواء في اليمن أو عقب خروجه من اليمن، كان حريصاً أن يزرع فينا القيم والأخلاق وحب الناس والوطن ويحثنا على التعليم.
أتذكر عندما كنت صغيراً، وقد حملت السلاح لمرافقته، فقال لي وبكل هدوء أريد أن يكون سلاحك القلم، كان يرفض كل المظاهر المسلحة، وعندما كان يصعد السيارة يلتفت للمرافقين ويقول اخفضوا السلاح لا أريده أن يكون ظاهراً فنحن لا نحمله إلا للضرورات الأمنية وليس للاستعراض، لقد كان يمنع المرافقين من النزول من السيارة في أي مؤسسة حكومية، فقد كان يحترم كل شيء يرمز إلى الدولة والنظام، بما في ذلك الجندي الذي يقف في النقطة الأمنية، أو في بوابة أي مؤسسة عامة أو خاصة، بالرغم من تحركاته الكثيرة، إلا انني لا أتذكر أنه اختلف مع أي عسكري في أي نقطة أمنية نهائياً.
وكان رحمه الله يقوم ببعض المواقف اللطيفة مثل أن يصل إلى نقطة أمنية، فيسأله الجندي عن الصفة الاي يحملها، فيرد عليه قائلاً: معك محافظ سقطرى، حينها لم تكن جزيرة سقطرى محافظة، ويعطيه الجندي التحية. وكنت أنا والمرافقين نضحك من الجندي، لأنه لا يعلم أن سقطرى ليست محافظة، فاذا بالوالد يزجرنا، ويقول: مسكين عسكروه وما علموه.
كان رحمه الله كريماً مضيافاً لم يخلو بيته في أي يوم من الأيام من الضيوف، وعلى الأقل يكون عامراً بأصحاب الحاجات التي يريدون قضائها منه أو من خلاله لدى أي جهة من الجهات، حيث كان معروفاً بخدمة الناس وتسخير وقته وعلاقاته الواسعة لقضاء حاجاتهم، كان رحمه الله يصحو مبكراً، ويذهب مع مواطن يمني قادم من أقصى الريف إلى أي مؤسسة حكومية أو حتى خاصة لحل قضية هذا المواطن، كان عندما يأتيه مبلغ من المال يكون شغله الشاغل كيف يوزع ولمن.
أنا لا أُحرج من التكلم عن صفاته، لأن ما أقوله ليس كلامي فقط، وإنما ما يقوله ويعرفه الناس عنه، عندما يقصده أحد لا يتعذر له، بل يُرحب به ويذهب يبحث عن سلفة لقضاء حاجة من قصده. في أحد الأيام سمعت خالي العزيز حسين العجي صاحب الصفات العظيمة بعد عودته إلى اليمن في العام ٢٠١٣ يتحدث مع جمع من أصحابنا وآخرين، ويقول لهم خففوا على الشيخ علوي الظروف اختلفت والرجل لا يتحمل أن يطلبه أحد ولا يعطيه، ويردد قول الشاعر:
تَراهُ إِذا ما جئتهُ مُتَهَلِّلاً * كَأَنَّكَ مُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه
كَريمٌ إِذا جِئت لِلعُرفِ طالِباً * حَباكَ بِما تَحنو عَلَيهِ أَنامِلُه
وَلَو لَم يَكُن في كَفِّهِ غَيرُ نَفسِهُ *** لَجادَ بِها فَليَتَّقِ اللَّهَ سائِلُه
كان رحمه الله يغضب إذا سأل أحد أولاده أو أقاربه هل لديك فلوس ورد بكلمة (ماشي)، بمعنى لا يوجد، ويقول تزعجني هذه الكلمة، بل قل “بيكون خير” أو “بيدي الله خير ” وابشر بالخير.
كان يحمل هم الوطن دائماً، وينزعج من أي مواقف تسيء للوطن، لا يهاب أحد، ويحرص على سمعته.
كان رحمه الله يحرص أن يقضي شهر رمضان في بيته، وفي أول أيام رمضان كان يجمع أبنائه جميعاً، ويقول في هذا الشهر لا تختلفوا مع مخلوق نهائياً، وإذا أحد صدم السيارة سامحوه، وإن صدمتم سيارة أحد قوموا بإصلاحها دون نقاش، هذا شهر تسامح ورحمة.
وكان دائماً ما يوصينا في الأرحام والجيران، ويقول لهم لو تصلني أي شكوى من الجيران، لن أرحم من يُغضب أو يُسيء للجيران.
كان رحمه الله يحب بناته بشكلٍ كبير جداً، حتى أنه كان يحزن كثيراً عند زواجهن، لأنهن سيفارقنه.
بالنسبة لي، عندما كنت أذهب إلى أي مكان أو مؤسسة وأقوم بالتعريف عن نفسي، أجد الناس تعرفه وتحبه وتثني عليه، وتنفتح لي أبواباً كانت موصودة، وأشعر بفخرٍ كبير واعتزاز.
أتذكر موقف وأنا في الأردن، فقد تم ايقافي بسبب اشتباه، والضابط الذي استدعاني للتحقيق بعد أن نظر لجواز سفري، سألني: هل أنت ابن الشيخ أبو عبدالله؟ قلت له: نعم، فإعتذر مني وقال: أن العقيد المجالي (لا اتذكر اسمه ) عمي اللواء هاني المجالي صديق والدك،. هذا أكبر رصيد ورثه لنا الوالد رحمة الله عليه، وهو محبة الآخرين في الداخل والخارج.
كان يستخدم علاقاته في خدمة الآخرين، ويرفض أن يتوسط لنا، وكان يقول عندما أذهب لمنفعة الآخرين أتحدث بكل جرأة، لكن لو الموضوع يخصني أو يخص أحدكم سيكون موقفي ضعيف. ولذلك أتذكر أنه رفض ترقية أي أحد من أخواني، إلى أن يتخرجوا من الكلية العسكرية.
وكان رحمه الله عنده أنفه وعزة بنفسه، أتذكر في إحدى المرات وأنا صغير، جاء اتصال بأن لديه موعد مع رئيس الجمهورية في دار الرئاسة، فرحت وأنا صغير سنقابل رئيس الجمهورية آنذاك. فعندما وصلنا إلى بوابة دار الرئاسة في السبعين، أخبرونا بأن ننتظر في السيارة في الشارع المقابل، وذهبنا للتوقف ولم تمر سوى دقيقتين وقال الوالد رحمة الله للسائق تحرك، وحينها استغربت لماذا؟
ولم أتجرأ على سؤاله، و بعدها بعدة سنين سألته لماذا؟ رد وقال أن الوقوف في الشارع أمام الناس إهانة ولا اقبلها، هو رئيس جمهورية يدخلنا داخل الحوش وننتظر كما يشاء أما في الشارع لا يمكن.
دروس كثيرة تعلمتها من خلال مرافقته، ولو سردتها لأحتاج كتب عديدة، رغم أنه كان لا يتحدث عن نفسه وتاريخه ومواقفه، وأنا أقرأ التعازي أشياء كثيرة لم أعلمها إلا من الآخرين.
زرع فينا رحمه الله القيم والعلم، وكان فخوراً بنا، فأنا التحقت بوزارة الخارجية، وأخواني الآخرين منهم الضابط والمهندس، وأخواتي كذلك في مجال الطب والترجمة، والصغار مازالوا في الجامعات، وأخواني هم: عبدالله ومحمد وسامي وطارق وأحمد وعبدالملك وحمدة وسامية وليلى وسمية، هؤلاء سندي في الحياة، وأنا سند وعون لهم ما حييت، وسنمضى في هذه الحياة بصفات وأخلاق والدنا المغفور له بإذن الله، وسنرعى أمهاتنا اللاتي ربيننا على الخير والحب.
رحمك الله يا والدي وأسكنك فسيح جناته، فراق صعب ولكن هذه سنة الحياة، وسنستمر على خطاك، وسنكون كما أردتنا أن نكون بإذن الله.
وفي الأخير، أشكر كل من عزانا ووقف معنا، وأخص بالشكر الخال الغالي والعون والسند والفخر اللواء حسين العجي العواضي.
وأنوه للأخوة والأصدقاء جميعاً أنه تم تأجيل إصدار الكتاب عن فقيد الوطن الوالد الشيخ علوي العواضي إلى حين اكتمال مداخلات بعض أصدقائه الذين عاشروه ورافقوه في كثير من المواقف.
وأدعو كل أصدقاء ورفاق المرحوم الذين رافقوه أن يكتبوا عنه ويبعثوا لنا ذلك.
دعواتكم للوالد بالرحمة و المغفرة في هذا الشهر المبارك.
عبدالسلام علوي العواضي