تركت مسألة قيام الدولة وأشكال الحكم، في الدولة الإسلامية أثرها في وجود العديد من الدراسات والنظريات التي عنيت بالبحث حول نظريات الحكم الإسلامي. بداية من مبدأ الشورى الذي أقر في سقيفة بني ساعدة، وما تلاه من اجتهادات حملت في أغلبها طابعا دينيا يصنف أشكال الحكم والدولة الإسلامية، والذي توزعت أشكاله بين نظام الخلافة إلى الإمارات والممالك الإسلامية، لتتعدى في مراحل تاريخية مقرونة ببيئة سياسية وجغرافية محدودة تلك الأنماط السياسية الحاكمة المألوفة، إلى نظام الحكم الإمامي الذي تمكن أدعياؤه من ترسيخ فكرة الإمامة وفق معطيات سياسية ومذهبية خاصة، مستفيدة من التراث الفكري والفقهي الذي خلفته نظرية الإمامة الزيدية في اليمن، وهو أساس قراءتنا في هذه المساحة الفكرية الخاصة بالبحث عن أصول الدولة الامامية، وطبيعة نشأتها، وخصائص الحكم، وهو مبحث شامل للعديد من التساؤلات والإجابات والتحليل التاريخي المفصل الذي وضعنا أمامه الباحث عادل الاحمدي في كتابه (الزهر والحجر التمرد الشيعي في اليمن (2004_2006) وموقع الأقليات الشيعية في السيناريو الجديد).
في هذا المبحث نجدنا أمام رؤية متفردة تولى فيها الكاتب وبعناية شرح طبيعة هذا النظام بل وعقيدته المذهبية والسياسية، وممارساته الاجتماعية، بطبيعة سيكولوجية واحدة غير آبهة باختلاف الزمان والمكان. وجميعها كما أوضح الباحث، تبدأ "بحالة من الانتعاش المادي الذي تشهده الأسر الهادوية يتبعه حلقات من التواصل الحميم فيما بينها والدعوة إلى التماسك وطي خلافات الماضي، ينشأ عن ذلك حركة مزدوجة فكرية وسياسية الأولى تعزف على وتر "الزيدية" بمنظورها الجارودي المفضي إلى حق البيت العلوي في الحكم، والأخرى سياسية تتكفل بمهمة التغلغل في أجهزة ومرافق الدولة المراد إسقاطها".
وهذا ما يفسر حالة السقوط للدولة الذي ترافق مع ظهور نظام الحكم الامامي. ويوضح الكاتب هنا تشابه دولة تيار الامامة الجارودية في جميع نسخها تشابهاً بلغ حدود التكرار من حيث خطوات النشأة أو من حيث ملامح الإدارة والحكم..
وبالنظر إلى المكون أو بالأصح المحفّز الفكري الذي تقوم عليه الامامة في الفكر الشيعي الجارودي، فهو يقوم على أساس استحقاق البيعة لمن خرج من أبناء الحسنين داعيا لنفسه عالما مجتهدا إلى غيرها من الصفات والشروط التي يستوجبها ظهور الإمام، بل يشرع هذا الفكر ذاته منابع أخرى للانشقاق والاحتراب الداخلي حتى بين مدعي الإمامة ذاتهم عبر سن تشريع يجيز ظهور إمامين في وقت واحد، شرط اختلاف مكان الإقامة.
وبالنظر إلى الجذور التاريخية التي مهدت لقيام الدولة الامامية في اليمن فإنها تنتمي من حيث البنية التاريخية إلى نفس الوقائع والأحداث التي تؤهل لقيامها، وما قيام حركة الحوثيين اليوم واستئثارهم بالحكم إلا شكل من أنماط الحكم الإمامي الذي يقوم على أساس استغلال مواضع ومكامن الضعف في الدولة، تمهيدا لإسقاطها.
وكانت البداية مع سقوط الدولة اليعفرية التي تأسست على يد الأمير "يعفر" عقب مقتل أميرها "أبي يعفر إبراهيم بن محمد وما نتج عن ذلك القتل من شغب وشتات إلى أن وفد يحيى بن الحسين على صعدة وقبائلها سنة 284هـ ولقب نفسه بالهادي وبدا يدعو إلى الإمامة والتشيع ويخوض العديد من الحروب الطاحنة على اليمنيين بهدف تأطيرهم في بوتقة الإمامة التي ميز ظهورها كدولة، وان كان لنا تحفظ حول كونها دولة بالمفهوم العام لها. وقد رافق ذلك ظهور الإمامة الجارودية في اليمن مرتين الأولى عبر ما عرف بالدولة القاسمية التي أسسها القاسم بن محمد ثم أبناؤه من بعده واستمرت منذ العام 1600م - 1598م وحتى مجيء العثمانيين للمرة الثانية إلى اليمن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
أما دولة الأئمة الثانية فقد قامت على يد الإمام يحيى حميد الدين بن محمد واستمرت 44 عاما إلى قيام الثورة اليمنية 1962م. ويرى الكاتب أن هذه هي الفترة الزمنية الوحيدة التي ظهرت فيها الإمامة كدولة، مفنِّداً ما يعتبر ادعاء بحكم دولة الأئمة لليمن لما يزيد عن ألف عام، حيث أن مجموع السنوات التي قضتها الدول الأمامية منفردة بحكم اليمن 233 سنة منها 44 سنة حكمت فيها الجزء الشمالي فقط فيما كان الجزء الجنوبي مستعمرا من قبل الانجليز، أو محكوما من قبل أبنائه. فيما بقية الألف عام، الشائع بين الناس، فإنها كانت إمامة متواصلة متداولة بين الأسر الهادوية ولم تكن إمامة حكم ذات عاصمة وراية ونشيد.
وإذا ما أجرينا قراءة تاريخية ناقدة ومدققة لمشروع الدولة الإمامية فسنجد ما هو أبعد من التقارب أو التشابه في السياسات العامة لها إلى تناسخ وتأصيل متعمد لتلك السياسات.
وقد أورد الكاتب عددا من الخصائص العامة للدولة الإمامية من بينها أنها ليست ذات نزعة وطنية، لا تحافظ على وحدة الوطن شعبيا أو جغرافيا، ولا تجنبه التقزم ولا تسعى لاستعادة المبتور منه، فهي تتجه دائما إلى تمزيق المجتمع عبر إثارة الضغائن والانشقاقات بين القبائل وضرب بعضها ببعض لغاية إضعافها وضمان ولائها.
كما لم تتضمن دولة الإمامة الهادوية أية رؤية حضارية تمهد لدورها كدولة لها علاقاتها وأنشطتها. فقد تميزت دولة الامامة بطابعها القروي والسلالي لاغية بذلك أي دور أو اتصال حضاري بمحيطها الإقليمي والدولي العام.
وقد اثبت الواقع العام لنسخ تجارب الحكم الهادوي باليمن، تخاذلها بل واتجاهها المتعمد إلى إغفال أي جانب تنموي يكون ضامناً لأي مشهد من مشاهد التطور والاستقرار الداخلي، بل ظلت محافظة على الإرث الإمامي القديم بكل ما حمل من تخلف وتردٍّ عام في كل أنشطة الدولة ومسؤولياتها تجاه الشعب والوطن.
وكان الأئمة يحرصون على منع وإسقاط كل دعاوى الإصلاح ومواجهتها بالعنف والقمع، حيث اتجهت إلى قمع كل أشكال المعارضة واغتيال رموزها مستخدمة في ذلك دعاوى وخطابات لاهوتية ترجع كل أفعال الإمام وأوامره وسياسته إلى مصادرها الربانية غير القابلة للنقاش، والرعاية الإلهية التي تبارك كل خطواتها.
وقد اوجدت تلك السياسات نوعا من التنازع والتنافس، وعدم الاستقرار بين الاسر الحاكمة من جهة، وبينها وبين بقية الأسر الهاشمية من جهة ثانية، وبينها وبين الشعب الذي كان غالبا ما كان يواجهها بانتفاضات وحركات تمرد وثورات داخلية كانت تواجه وتقمع بعنف ولكن مجرد حدوثها كان مؤشرا عن خلل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي غذته سلسلة من السياسات الاجتماعية الموجهة التي تهدف إلى تقسيم المجتمع واستحداث فوارق في البنى الاجتماعية تضع من الهاشميين في رأس السلطة و المكون الاجتماعي، وفق أحقية دينية ومذهبية مفتراة ترعاها الفئة الحاكمة التي غالبا ما كانت تستند على تجهيل الشعب وعدم استحداث أي بنى تعليمية خارج فقه الولاء والبراء والطاعة لأهل البيت الشريف الذي عبرت عنه الأسر الهاشمية الحاكمة التي أثبتت أن مشروع الإمامة كان ولا يزال مشروع استيلاء لا مشروع حكم على حد تعبير الكاتب.
وبهذا يكون الكاتب قد وضعنا في كتابه أمام تصور شامل للإمامة كفكرة، وعقيدة حاولت أن أضعكم أمام هذه القراءة المبسطة حولها، آملة أن يجد هذا الكتاب حقه من القراءة والفهم الذي يساعدنا في التغلب على عقد الجهل المزمنة حول هذا المشروع الذي يحاول مجددا أن يجد مكانه بين أنفاس هذا الشعب الجمهوري.