ونحن نبحث في الجذور التاريخية للمكون الحضاري لليمن، تستقر قراءتنا عند كتيب ثري يحمل عنوان "الشعب الحميري (اليعربي) في الشمال الإفريقي - الأشراف الأحرار" للباحث الدكتور محمد عبدالعزيز اليمني. وهو كتاب من الحجم الصغير إذا ما قورن بعدد صفحاته، فقد وضعنا الباحث عبر قالب معدود من الصفحات التي تصل إلى اثنتين وأربعين صفحة، أمام بعد حضاري عريق مثّله الحميريون لقرون عدة سابقة للميلاد، سعى من خلاله الكاتب إلى إبراز الهوية الحضارية لليمنيين كشعب وممالك امتدت سلطتهم إلى الحدود الخارجية لليمن، بل والجزيرة العربية بأكملها لتصل في أوج مجدها الحضاري، إلى بلاد الهند والصين في المشرق، وبلغت في غزواتها مراكش في المغرب.
ويعتبر الباحث أن حضارة اليمن قديمة قدم التاريخ، فقد كانت اليمن قصبة العالم وقاعدته. وأبناء يعرب بن هود عليه السلام (اليمانيون)، هم بداية الحضارة العالمية من حضارة معين، وقتبان، وسبأ، وأخيرا حِمير، لافتاً إلى تلك الإشارات القرآنية التي تشير إلى تلك الحضارة.
وقد ذهب الباحث في كتابه هذا إلى ما هو أبعد من وجود صلات وعلاقات تربط بين اليمنيين والشعوب القاطنة في الشمال الإفريقي، إذ توصل إلى التأكيد على أن أصل هذه الشعوب والقبائل يعود إلى القبائل والممالك اليمنية القديمة (الحميريين) وهو ما أسماه اصطلاحا بالشعب الحِميري المسمى بالبربر، أو الأمازيغ، ويدخل ضمنهم ما يسمى خطأ بالمستعربين من البربر واعتبرهم بأنهم عرب أقحاح جذورا وأصلا.
ويستعرض الباحث العديد من القرائن التي تؤكد صوابية ما توصل إليه بحثه، بداية باللغة التي أثبتت دراسات المستشرقين اشتقاقها من اللغات السامية (العربية) حيث تم التأكيد على أن اللغة النوميدية أي الأمازيغية لغة سامية (أي عربية) انفصلت عن اللغات السامية في المشرق في مرحلة غارقة في القدم.
الباحث، وهو أستاذ في جامعة الملك سعود بالعاصمة السعودية الرياض، وله مؤلفات عدة في التاريخ اليمني، يجد أن دخول الحميريين إلى شمال إفريقيا يرجع إلى ما قبل ثلاثين قرنا من الميلاد، إضافة إلى التشابه الجسماني بين قبائل المغرب الصحراوية والقبائل اليمنية المهاجرة إلى هناك، بل إن العديد من الدراسات الحديثة تذهب إلى ما هو أبعد من وجود تشابه بين تلك القبائل، لتؤكد نتائج التحاليل الحمضية للحمض النووي وجود تطابق جيني بين القبائل اليمنية والأمازيغية. علاوة على وجود العديد من التطابق والتشابه بين النفَس اليمني الحميري في البناء والآلات والآنية والآثار على طول الطريق من جنوب الجزيرة العربية إلى المغرب العربي.
وحسب اليمني، فقد استمر ذلك الوجود والترابط بين تلك القبائل طيلة العصور السابقة للإسلام لتشمل فترات تاريخية إسلامية هامة، أثبتت فيها هذه الزعامات القبلية هناك أصولها التاريخية لليمن، فمن أسعد الكامل، والصعب ذي القرنين، إلى المنصور بن أبي عامر المعافري الحميري، ويوسف بن تاشفين، رحلة طويلة عمرها آلاف السنين وجميعها حضارات قامت على التوحيد وأثبتت حضورها على كافة المحاور الدينية والسياسية والعسكرية والفكرية والاجتماعية هناك. وما نراها اليوم من زوال لتلك الحضارة إنما كان جزءا من سنن ونواميس شهدتها البشرية عبر تاريخها الطويل مجسدة في قيام حضارة وزوال أخرى.