هذه الأيام يتابع بعض من الجمهور العربي مسلسل «الجماعة» وهو مسلسل يحكي قصة تنظيم الإخوان المسلمين مع الثورة المصرية عام 1952 وما بعدها، وهو الجزء الثاني، بعد الجزء الأول الذي عُرض قبل ست سنوات تقريبا. يروي المسلسل قصة الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين وبين ثورة يوليو (تموز)، وهي قصة تروى من خلال الشاشة مع بعض البهارات الدرامية، لأن المطلع على التاريخ الحديث لقصة الثورة وتطوراتها ولقائها ثم اختلافها مع الإخوان، رويت بإسهاب في أكثر من كتاب ومذكرات حملت الرأي والرأي الآخر، وهي طبيعة سرد التاريخ. بعض ما يشاهد على الشاشة الصغيرة فيه شيء من الخيال الذي أضافه كاتب المسلسل السيد وحيد حامد ربما للضرورات الدرامية. إلا أن القصة في مجملها هي الصراع بين فكر يريد أن يسود ويحكم وهو يستلهم نموذجاً من خارج العصر، وواقع مختلف في عصر مختلف اختلافاً كلياً. أنا على يقين أن البعض لا يهضم ما جاء به المسلسل، لأن له موقفاً مسبقاً ويكاد يصف المسلسل بأنه «نقد للإسلام»، كما أن البعض الآخر يرى فيه سرداً للحقائق التاريخية وأنه نقد للحركة، كل ذلك (البعض) على خطأ، لأنه يزن ما يعرض بميزان العاطفة لا العقل.
الحقيقة القريبة إلى الموضوعية لقد فشلت حركة الإخوان بسبب ربطها بين الديني «الثابت» والسياسي «المتغير» في منتصف القرن الماضي وبعد ذلك، حيث قصرت عن التكيف مع الواقع الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي، فكان أن تفجر بينها وبين السلطة المصرية آنذاك ما نعرف من قصة دامية وحزينة دفع فيها العشرات وربما أكثر ثمنا من أرواحهم، وآخرون من مستقبلهم، كما نعرف القصة نفسها تكررت باختلاف التاريخ والأشخاص، ولكن بالعقلية نفسها، عندما وصلت حركة الإخوان إلى الحكم بعد ثورة أو أحداث عام 2011 في مصر، رأينا الجماعة بمختلف أجيالها تكرر الأخطاء نفسها! والسؤال الملح كيف يمكن لجماعة سياسية تتكئ على الدين أن تفشل هذا الفشل الذريع في الحكم، وتزيغ عن التواؤم والتأقلم مع واقع سياسي اجتماعي له خصوصيات وتجلياته هي بالضرورة مختلفة ومعقدة، مما أدى إلى وضع الأمور، في أكثر من مكان وزمان في منطقة صراع عبثي، والذي يبدو أنه مستمر بتجليات مختلفة حتى اليوم؟
حركة الإخوان المسلمين هي تعبير عن رؤية لجماعة بشرية عربية مسلمة في وقت ما (الربع الأول من القرن العشرين) لمتطلبات الحكم السياسية في المنطقة العربية وفي مصر ابتدأت، المعضلة الهيكلية الأساس أنها نظرت إلى الحكم وفنون إدارة الدولة، وكأنها معطى لا يتغير مع الزمن، تنظر إلى ماض لم يدرس دراسة مستفيضة ومتأنية وعلمية، سمته العصر الذهبي في التاريخ، وكأنه المكان الذي يجب أن تعود إليه الأمة في عصر مختلف كليا عن ذلك العصر، هنا تكمن معضلة الحركة وكل الحركات الأخرى التي تشبهت بها، أو ظهرت من صُلبها أو انشقت عنها، أدخلت المنطقة في صراع اجتماعي - سياسي طويل دون نتيجة تذكر، إلا سيل من الدماء والدموع.
حركة الإخوان وهي الحركة الأم بنيت على أفكار مؤسسها الراحل حسن البناء، أي المتوفر من الأفكار السياسية التي كانت تحيط بالرجل وبالبيئة التي يعيش فيها في العشريات الأولى من القرن العشرين، وكانت بيئة مفارقة حديثا لإمبراطورية عثمانية حكمت باسم الدين، ولكنها لم تكن قادرة على أن تستمر في مواجهة التحديات التي ظهرت في الخمسين سنة قبل سقوطها بسبب جمودها، ومن جهة أخرى تحديات الاحتلال الأجنبي (البريطاني في الشرق والفرنسي في الغرب) فكان جواب المؤسس النكوص إلى الماضي (إحياء الخلافة) إجابة بسيطة لوضع معقد! لم يكن متوفراً للمؤسس إلا بضع أفكار عامة، بعضها مثالي منتقى من تاريخ ليس بالضرورة صحيح، وبعضها نابع من احتكاك بحركات شبه فاشية ظهرت في الغرب في الربع الأول من القرن العشرين. فجاءت تعاليم المؤسس خليطاً من الوهم الممزوج بمناورات سياسية، لم يكن باستطاعته مواجهتها بنجاح، فتذبذبت الحركة من (الدعوة) إلى الممارسة السياسية غير الناضجة، أي المراوحة في الولاء بين الأحزاب المصرية القائمة وقتها، وبين القصر، إلى تبني أفكار تنظيمية سائدة في عصره لها طابع الأعمال الإرهابية، مثل منظمة «اليد السوداء» التي نشطت في مصر عقب الحرب العالمية الأولى، وكانت تشابه في الاسم والفعل المجموعات التي كونها الصرب المعارضون للاحتلال النمساوي - المجري، (اليد السوداء)، المؤسس اختار «التنظيم الخاص» الذي عهد إليه القيام بأعمال الاغتيال (في الوقت نفسه يعلن التبرؤ من أعمال التنظيم علناً) حتى وصلنا إلى التعبير الشهير على لسان المؤسس نفسه، عندما اتهمت الجماعة باغتيال رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر (كانون الأول) 1948، «ليسوا إخواناً ولا مسلمين»! ربما أصبح ذلك التعبير أوسع اقتباساً للحركة طوال سنين! هذه الثنائية العمل العلني فوق الأرض والعمل السري (الإرهابي) تحت الأرض أي الفعل والفعل المضاد، يمكن أن تقبل من مجموعة سياسية، أما مجموعة مرتبطة بالدين، فذلك يثير الحيرة التي سرعان ما تنقلب إلى ريبة. تلك الثنائية أصبحت سمة للحركة عززت التيار الثاني الذي جاء بعد جيل التأسيس، (استخدام القوة) لتحقيق أهداف سياسية، فأصبحت سمة للجماعات التي ولدت من رحم الإخوان بعد ذلك، خصوصا الجماعات التي تسمى اليوم «القطبية» نسبة إلى سيد قطب، الشخصية الأكثر جدلية في مسيرة ما يمكن أن يسمى «الإسلام السياسي» في عصرنا، ويسطر السيد ثروت الخرباوي في كتابه «في قلب الإخوان» صدر عام 2010.
وهو إخواني سابق، أن الحركة وقت ذلك، أي بداية القرن الحادي والعشرين، كان لها ما يشبه جهاز «أمن الدولة» الذي يتابع المشكوك في ولائهم للتنظيم، إن أبدوا أي اختلاف عن «السمع والطاعة». على جانب آخر يفتقد الإخوان وما تناسل منهم، ما يمكن أن يسمى الأمثولة، لعل المسلسل يأتي عليها، ولكن في المكان غير المكان، وهي رغبة المرشد العام الثاني الهضيبي، وقد جاء من خارج تيار الحركة نفسها، رغبته التي أبداها لقيادة ثورة، 1952 بأن تقوم بفرض الحجاب بقانون، الأمر الذي قيل له وقتها لماذا تريد أن تفرض الحجاب على نساء الشعب، وبناتك غير محجبات! ذلك مثل من عدد من الأمثلة في فقد «الأمثولة» التي كانت سمة كبار القياديين، واستمرت مع أجيالهم المتعاقبة، فهم يقولون غير ما يفعلون! ملمح آخر من قصور الإخوان عن معرفة البيئة المحيطة، هو موقفهم من الديمقراطية، ليس الديمقراطية العامة للشعب، ذلك مفروق منه، ولكن في داخلهم، فربما اليوم أكبر عدد من الإخوان هم الإخوان السابقون، الذين تركوا التنظيم في وقت أو آخر، لأنه لم يكن يتسع صدره للمناقشة والأخذ والرد، تاريخياً كما نعرف فرض التنظيم على المرحوم حسن الباقوري، وكان في مكتب الإرشاد أن يستقيل منه، لأنه قبل دخول الوزارة في مطلع خمسيات القرن الماضي، وهم قد كانوا رشحوه! وتكرر ذلك في تواريخ أخرى ومع شخصيات أخرى في أكثر من بلد! مفارقة العصر والقصور عن التواؤم مع متطلبات متغيرة، هي التي وضعت وتضع ما يعرف اليوم بـ«الإسلام السياسي» في أزمة مستحكمة لها تجليات كثيرة وعميقة وتوترات صاخبة ما زالت تصم آذاننا وتعطل المصالح المرسلة للشعوب.
آخر الكلام: في حال الاختلاف في الاجتهاد مع مدرسة الإخوان وتوابعها في المذاهب المختلفة، سرعان ما تخرجك من «الدين» لأنك مخالف لها في «السياسية» وتحل «قتل الشخصية» المخالفة معنوياً وإن كان بالمستطاع عملياً!
نقلاً عن الشرق الأوسط