عاش الإمام أحمد يحيى حميد الدين السنوات السبع الأولى من حُكمه مُطاعًا مُهابًا؛ كيف لا؟ وقد خرج مُنتصرًا على أعدائه العصريين، ثائرًا لدم أبيه منهم، مَاضيًا على نهج سلفه الصريع؛ فزادت تبعًا لذلك شعبيته عند أنصار الإمامة وغيرهم، وبدأ يهيئ الأمر لولده الأمير محمد البدر ليكون وليًا للعهد وإمامًا من بعده، وهي التهيئة التي ولَّدت صراعًا عاصفًا داخل أفراد الأسرة الإمامية الحاكمة، وكانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
حركة 1955م
كان بعض الأحرار الأوائل أول من روج لفكرة ولاية العهد، وقد تحدث القاضي عبدالرحمن الإرياني في مُذكراته عن ذلك بإسهاب، وقال أنَّ المناضل إبراهيم الحضراني أخبره أنَّ الأحرار اتفقوا أنْ لا سبيل للعمل الوطني إلا من خلال الأمير محمد البدر، ومن خلال بَذر الخلاف بين الأسرة الحاكمة نفسها، وأنَّه على ضوء ذلك وبتكليف من ذات الأمير سارع في كتابة صيغة البيعة 10 مايو 1954م، ودعمها بالأدلة المُبررة للخروج عن المذهب الزيدي الذي لا يجيز ذلك، وأتبع ذلك بأخذ توقيعات عدد من العلماء.
سارع الأمير الحسن - حاكم صنعاء حينها - بإرسال رسالة اعتراض لأخيه الإمام أحمد، فما كان من الأخير إلا أنْ أوقف العمل بِصيغة البيعة، وظل يَعمل على تثبيت الأمر لولده، مُمهدًا لذلك بالتخلص من مُنافسه، وإرساله إلى نيويورك؛ الأمر الذي جعل خلاف الأسرة الحاكمة يظهر إلى السطح.
وكرد فعل أولي على تلك التهيئة الأحمدية، انقلب الأمير الطامح عبدالله على أخيه الإمام يوم الخميس 31 مارس 1955م، بمُعاضدة من بعض ضباط الجيش النظامي، بقيادة صديقه المقدم أحمد يحيى الثلايا، وقد أجبر الأخير الطاغية أحمد أنْ يتنازل بالإمامة لأخيه غير الشقيق، وجاء في وثيقة التنازل الماكرة ما نصه: «حملنا الأخ سيف الإسلام عبدالله الحجة، وكان التنازل على أنْ يقوم بالأمر، ويجريها على شريعة الله سبحانه، ولم يبق ما يوجب الأخذ والرد، وقد كان هذا بحضور جماعة من العلماء، فليعد كل واحد إلى محله، والأخ سيف الاسلام حفظه الله يخرج إلى محله بالعرضي للقيام بأعمال الناس، وعليكم جميعًا اعتماد أوامره، ومن خالف هذا فعليه حجة الله».
وحين التجأ الأمير محمد البدر إلى القبائل الشمالية، آثر الإمام الجديد (عبدالله) الذي تلقب بـ (المُتوكل) الاعتزال، حَقنًا للدماء، وصارح الطاغية أحمد بذلك، إلا أنَّ الأخير أوهمه أنَّه معه، وأنَّ أمر تنازله محسومٌ محسوم؛ بل وكتب لولده في حجة برسالة يدعوه فيها للرضوخ لأوامر عمه، وختمها بقوله: «وإني أحب أنْ ألقاك عند الله وأنت شهيد، على أنْ ألقاك وأنت قائد فتنة»!
انطلت الخُدعة (التقية) على الإمام عبدالله، وحين نصحه البعض بإعدام أخيه الإمام المعزول، لأنَّه مُخادع، وغير مأمون الجانب، زجرهم، وصدَّق أنَّه أصبح الإمام الفعلي، ولم يفق من حلمه القصير إلا بعد مرور خمسة أيام (5 أبريل 1955م)، وإذا بمن عفا عنه بالأمس يأمر بفصل رأسه عن جسده، وفصل رؤوس 16 آخرين، منهم أخاه الشقيق العباس، رئيس الوزراء المـُكلف، وصديقه المقدم الثلايا، وهكذا وكما أدى مقتل الإمام يحيى إلى فشل ثورة 1948م، أدى عدم مقتل الإمام أحمد إلى فشل حركة 1955م.
وما يجدر ذكره أنَّ الإمام أحمد بعث في اليوم الأول للانقلاب ببرقية للملك سعود بن عبدالعزيز طالبه فيها بالتدخل الفوري، وقصف المُتمردين بالطائرات، في حين أرسل ولده الأمير محمد البدر فور وصوله مدينة حجة بالأستاذ أحمد محمد نعمان، وأحمد محمد الشامي إلى الرياض، لحث المملكة على التدخل، إلا أنَّ إخماد تلك الحركة بسرعة حال دون ذلك.
وعلى الرغم من إيقاف الإمام أحمد العمل بصيغة البيعة، وتعمد الأخير ذكر اسم ولده الأمير محمد البدر مُجردًا من صفة ولي العهد، إلا أنَّ الإعلام الرسمي الإمامي ظل يُطلق تلك الصفة على ذات الأمير، وكذلك فعل عدد من رجالات ذلك العهد وأدبائه، والذين كان بعضهم من الأحرار الأوائل.
الاتحاد اليمني
وفي الوقت الذي تَوزع فيه الأحرار الأوائل المُناهضين للحكم الإمامي بين السجون والمنافي، كان هناك ثمة مُحاولة ثالثة لإعادة تفعيل نشاطهم السابق من مدينة عدن، وذلك قبل ثلاث سنوات من حركة المقدم أحمد الثلايا السابق ذكر فشلها، وبلافتة ثقافية واجتماعية عريضة، مُجاراة للوضع القائم، وخوفًا من أنْ تقوم سلطات الاحتلال الانجليزي بوأد تلك المحاولة في مَهدها، إنْ هي جازفت ورفعت أية شعارات سياسية.
تبنى تلك المُحاولة عدد من الشخصيات الاعتبارية، أمثال علي محمد الأحمدي، ومحمد أحمد شعلان، وغيرهم، وبعد أخذ ورد ومشاورات عديدة أشهروا باجتماع تأسيسي عام ميلاد الاتحاد اليمني 31 مايو 1952م، وقدموه كهيئة جمعت في إطارها كل النوادي والجمعيات القروية، وتجمعات المُهاجرين، واهتموا بصورة أساسية بالنشاط التنويري، فشيدوا مدرسة، وفتحوا صفوفًا مَسائية، وأرسلوا المتفوقين للدراسة في القاهرة.
وفي القاهرة، تولى القاضي محمد محمود الزبيري رئاسة فرع ذلك الاتحاد، ولم يبتعد هو الآخر عن ذلك النهج الإصلاحي المهادن، وما أنْ لحق به رفيق دربه الأستاذ أحمد النعمان 8 أغسطس 1955م، وذلك بعد مرور سبع سنوات من فراقهما القسري، حتى تحول ذلك الكيان من إطار جامد إلى جهاز عامل صحفيًا، وإذاعيًا، وسياسيًا، وطلابيًا، وانتقل مركزه القيادي إلى تلك المدينة الحية.
وبعد مرور ستة أيام فقط من وصول الأستاذ النعمان إلى القاهرة، عاودت صحيفة (صوت اليمن) الصدور، وفتحت إذاعة (صوت العرب) أبوابها له ولرفيق دربه، ولم يمض من الوقت الكثير، حتى أغلقت السلطات المصرية مقر الاتحاد اليمني، وسحبت تصريح الصحيفة، بعد صدور عشرة أعداد منها، وأغلقت الإذاعة أبوابها؛ بفعل التقارب الذي حدث حينها بين الرئيس جمال عبدالناصر والإمام أحمد أبريل 1956م.
ارتفعت بعد ذلك وتيرة الخلافات البينية بين أعضاء الاتحاد اليمني، سواء في عدن أو في القاهرة، وقد نشط جَواسيس الإمام أحمد في صب الزيت على النار، وكثر تَهكم المُغرضين والمُغرر بهم على القاضي الزبيري والأستاذ النعمان، فما كان من المناضل محسن العيني إلا أنْ أصدر كتاب (معارك ومُؤامرات ضد اليمن)، دافع فيه عن الزعيمين، وقال: «لولا هذان الاسمان ما عرفنا الوطن والوطنية».
وفي شوارع القاهرة المزدحمة، شوهد الرجلان وهما يعيشان مع الشعب، ويأكلان الفول، والطعمية؛ ويركبان الأوتوبيس، وحين مرَّ من جانبهم صديقهم القديم أحمد الشامي (سفير الإمام أحمد)، أنزل زجاج سيارته الفارهة، وخاطبهم بلكنة دارجة ساخرة: «عيشوا مع الشعب يا أبطال»!
لم يستسلم الثائران العظيمان (القاضي الزبيري، والأستاذ النعمان) لليأس والإحباط، فقد توجه الأول مع نهاية العام 1959م من القاهرة إلى عدد من دول المهجر بغرض التعرف على أحوال المهاجرين فيها، وجمع تبرعات لإنشاء (كلية بلقيس) في مدينة عدن، كصرح تعليمي يلم شتاتهم، ويربط أولادهم بوطنهم الأم، وهو ما كان.
وقد حُددت فلسفة الكلية وسياستها في كُتيب خاص أصدره (الاتحاد اليمني) حينها عنها، جاء فيه: «أن محاولات اليمنيين للتغيير قبل أنْ يتعلموا لن تنجح، ولهم عبرة في العثرات التي صاحبت المحاولات السابقة؛ لأنَّهم ضحوا لصنع الجديد، فارتطموا بواقع يُخيم عليه الجهل، وانهار كل شيء، ولذلك تلاشت جهودهم كالأحلام.. العلم هو لعنة الله، والضمير، والعقل، والإنسانية على الظلم، وعلى الظالمين، وعلى كل من يُخالف العقل».
فيما نشط رفيق دربه القاضي الزبيري في فضح وتعرية نظام الحكم الإمامي، وتفرغ لتأليف عدد من الكتب، والكتيبات، كان كتابه (الإمامة وخطرها على وحدة اليمن) أشهرها على الإطلاق، وتنبأ في ذات الكتاب بأنَّ مَعارك المُستقبل وأحداثه ستدور حول هذه الكارثة المُسماة الإمامة، وأنَّ مَشاكل كثيرة ستنبعث منها، وستستغلها القـوى العربية والدولية شئنا ذلك أم أبينا، وأنَّ اليمن ستتعرض بسببها لأخطـارٍ لا نهاية لها.
انتفاضة حاشد
وبالعودة إلى أخبار الإمام الطاغية (أحمد ياجناه)، فلم تعد صُورته بعد إخماده لحركة مارس 1955م كما كانت، تحول في نظر كثير من المفتونين به من بطل اسطوري إلى سفاح سادي، وعصفت به تبعًا لذلك الأمراض النفسية والجسدية، وقامت ضده بعض الانتفاضات القبلية، وشهدت مناطق عمران، وخولان، وصرواح، وقبلها المفاليس فصولها ديسمبر 1957م؛ وكانت الجبايات التعسفية التي أرهقت كاهل المواطنين أحد أبرز أسبابها.
أرسل الإمام أحمد بِحملات عَسكرية لإخماد تلك الانتفاضات، فإلى المفاليس أرسل بقوات تحت قيادة ابن أخيه الأمير يحيى بن الحسين، وإلى عمران أرسل بقواتٍ كثيرة تحت قِيادة ولده الأمير محمد البدر، وإلى خَولان وصرواح أرسل بحملات أخرى تحت قيادة قادة آخرين، ولم يصلنا من نتائج تلك الحملات سوى أنَّ قائد حملة عمران خسر أثناء الـمُواجهات حوالي 50 فردًا من مُقاتليه، وجَرَّد أبناء تلك المنطقة من سلاحهم، واقتاد معه عدد منهم أسرى ورهائن.
وما أنْ غَادر الإمام أحمد إلى روما للعلاج 16 أبريل 1959م، ومعه حاشيته وحشد كبير من الرهائن؛ حتى قام بعض الضباط والجنود المُتحمسين في صنعاء وتعز بإحراق ومُحاصرة مَنازل بَعض المسؤولين، واغتيال اثنين منهم بإيعاز وتحريض - كما تشير مُعظم المصادر - من قبل أخيه الأمير الحسن، المُبعد حينها في نيويورك، والغاضب من حِرمانه من ولاية العهد، وهو ما سنأتي على تناوله تفصيلًا في ختام هذه التناولة.
استنجد الأمير محمد البدر بمشايخ قبيلتي حاشد وبكيل، وتداعوا ومعهم الآلاف من رعاياهم لنصرته، واستغل معظمهم ضعفه الشديد، وطلبوا الأموال الطائلة نظير مُساندتهم له، وقيل أنَّهم وفي ذروة حماسهم، وأثناء دخولهم مدينة صنعاء، رددوا هذا الزامل:
ســــلام يــــا حاشد ويا صُبة بكيل
مــن بعــد هـــذا تسمعون أخبارها
إمامنا النــــــاصر ومن بعده حميد
سبـــحان مـــــن رد العوايد لأهلها
وحميد هنا، هو الشيخ الثائر حميد بن حسين بن ناصر بن مبخوت الأحمر، سبق له أنْ تَعرض للاحتجاز في مدينة حجة كرهينة، وهو لم يتجاوز مرحلة الطفولة، ومع مُرور الوقت تعرف هناك على عدد من الأحرار الأوائل، كان الأستاذ أحمد محمد نعمان وولده محمد أبرزهم، وقد وصفه الأخير فيما بعد بداعية الجمهورية اليمنية، فيما عده الأول حينها واحدًا من أولاده، وعمل على تعليمه أبجديات العلم والعمل الوطني، وإقناعه بالنضال من أجل القضية، وتقرب منة أكثر بأنْ عرض عليه تزويجه من إحدى قريباته، إلا أنَّ الشاب الثائر اعتذر بأدب، لأنَّه كان - كما أفاد العميد محمد علي الأكوع - شديد الغرام بالتوجه الوطني، والانشغال بتحرير الوطن من القداسة الوثنية البشرية، والظلم والتعالي والتخلف، وقد بقي حتى استشهاده كالرمح المشرع في نحر الطغيان، بعيدًا عن الترهل البدني، وخور العزيمة، ووهن الطموح.
كان التوجه حينها أنْ يكون أحد المشايخ المُستنيرين رئيسًا للجمهورية الوليدة، وينوبه أحد الأحرار، وقد نقل لنا الأستاذ محمد أحمد نعمان جانبًا من أراء الأحرار الأوائل حول هذه الجزئية، في كتابه (من وراء الأسوار)، أسوار سجن نافع في حجة، حيث قال المناضل محمد أحمد السياغي أنَّ النظام الجمهوري يُعد من أفضل أنواع الحكم، حيث يُباشر الشعب الحكم فيه بنفسه. فيما رأى المُناضل عبدالرحمن الإرياني بنبرة يائسة أنَّ حركة الأحرار لا يمكن أنْ تنجح في المناطق الشمالية إلا على أساس حطم صنمًا وانصب صنمًا آخر، من نوع الأصنام التي ألفوا عبادتها، ودعا إلى أنْ يركز الاحرار جهودهم في العمل على اتخاذ المناطق الأخرى مَركزًا لحركتهم ودولتهم الجديدة، ولا ضير أنْ يتولى قيادتها مناضل زيدي - قحطاني. شاركهما الرأي المُناضل محمد عبدالله الفسيل الذي ختم مُداخلته بالقول: «فإذا تكونت حكومة الأحرار وأصبحت حقيقة واقعية في المنطقة الشافعية أمكن اكتساح المنطقة الزيدية، وإعادة اليمن إلى وحدتها».
وما دعوة الاتحاد اليمني - كيان الأحرار الثالث - لإقامة نظام جمهوري فيما بعد (أكتوبر 1957م)؛ إلا امتداد لهذا التوجه المُتدرج، وقد رشح معظم قادة وأعضاء ذلك الاتحاد الشيخ حميد الأحمر أنْ يكون أول رئيس للجمهورية الوليدة، حسب وثائق للأستاذ الشهيد محمد أحمد نعمان، قال العميد محمد الأكوع أنَّه اطلع عليها. وتأكيدًا لهذا القول قال المُناضل محمد الفسيل في إحدى شهاداته المُتأخرة: «وأذكر أنَّ الأخ محمد أحمد نعمان كان يُفكر في ترتيب الوضع الجمهوري، وكان يَرى أنْ يكون حسين بن ناصر الأحمر أو حميد بن حسين الأحمر رئيسًا للجمهورية، على أساس أنْ يكون نائب رئيس الجمهورية عالمًا دينيًا مُستنيرًا، وأنْ يكون رئيس الوزراء أحد المُثقفين ثقافة عصرية».
وبالعودة إلى موضوعنا، فقد كان للشيخ حميد الأحمر أثناء مُكوثه في مدينة صنعاء تواصلات مع عدد من المشايخ والأعيان، وقام بالفعل بإقناعهم بضرورة التغيير، واستغلال غياب الإمام أحمد لهذا الغرض، وحين سمع الأخير بذلك، وبصورة مُبالغ فيها، آثر العودة من فَوره، وما أنْ وصل إلى ميناء الحديدة 10 أغسطس 1959م، حتى أطلق خطاب مُجلجل بثته الإذاعة، أسماه (الصرخة الكبرى)، قال فيه: «لن يخيفني أخضر ولا أحمر، وهذا الفرس وهذا الميدان، ومن كذَّب جَرَّب»، واستشهد ببيت شعري نُسب له، مضمونه:
مـــاذا يـريدونها لا درَّ درُّهمُ
إنَّ الإمامة لا يطوى لها علمُ
هَرب أبناء القبائل من صنعاء مَفزوعين، مَذعورين، وسلموا مُعظم ما أخذوه من الأمير محمد البدر، وفوقها رهائن جديدة لتأكيد الطاعة، وذلك بعد أنْ مَارس الإمام أحمد في حَقهم جَرائم حرب شنيعة، وقد نال قبيلة حاشد من تلك الجرائم النصيب الأكبر، وكم من مَنازل دُمرت، ومَزارع أتلفت، ولولا عدم إيفاء مَشايخ حاشد وبكيل وبعض ضباط الجيش بالتزاماتهم، وخُذلان أبناء حَاشد لشيخهم، ما تقدمت القوات الإمامية صوب مَضارب قبيلتهم قيد أنملة، وما سَلَّم الشيخ حسين الأحمر بداية ديسمبر من العام 1959م نفسه.
أمام ذلك الوضع المُربك، قرر الشيخ حميد بن حسين الأحمر اللحاق بالمشايخ الذين توجهوا صوب بيحان، ثم عدن، أمثال الشيخ سنان أبو لحوم، والشيخ علي بن ناجي الغادر، والشيخ أحمد بن علي الزايدي، وغيرهم، إلا أنَّ أبناء القبائل المُجاورة حالوا بينه وبين هدفه، تَقطعوا له، وسَلموه قبل أنْ ينتهي ذلك العام لقوات الإمام أحمد، وذلك بعد أنْ نَهبوا أمواله، وجنبيته، وكان مصيره الإعدام بحد السيف 12 يناير 1960م، وعمره لا يتجاوز الـ 30 عامًا.
وحين اطمئن الإمام الطاغية لعدم وجود أي ردة فعل انتقامية؛ ألحق بالشيخ حميد والده (حسين الأحمر)، وذلك قبل أنْ ينتهي ذلك الشهر (يناير) بيوم واحد. كما قام بإعدام الشيخ عبداللطيف بن قائد بن راجح، والأخير اُعتقل بالقرب من الضالع، وذلك أثناء محاولته اللحاق بالمشايخ السابق ذكرهم. وقبلهم جميعًا تم اغتيال الشيخ قاسم أبو راس بالسم 22 مايو 1959م، وذلك بعد أنْ افتضح أمر خطة كان قد أعدها وثوار آخرين لاغتيال الإمام أحمد في قصره بمدينة تعز.
وما يَجدر ذِكره أنَّه وقبل إعدام الشيخ حميد الأحمر بأيام مَعدودة، قام المُناضل سعيد حسن فارع الذبحاني الشهير بـ (إبليس) بِمُحاولة اغتيال الإمام أحمد في مَنطقة السُخنة، وفق خُطة مُستعجلة شَارك في رسم فصولها عدد من أصدقاء وأقارب شيخ حاشد وولده، وكان الغَرض منها إنقاذ الشيخين المذكورين من سيف الطاغية، إلا أنَّ عملاء وجواسيس الأخير أنقذوا سيدهم، وأفشلوا تلك الخطة في مَهدها.
وإيضاحًا لتفاصيل تلك الانتفاضة المنسية، تحدث المناضل الرئيس عبدالله السلال في إحدى مُداخلاته عن وجود فصيل من القوى الوطنية تصدره بعض مشايخ حاشد وبكيل، بقيادة الشيخ حميد بن حسين الأحمر، وأفاد أنَّه تم الاتفاق حينها على القيام بانتفاضة قبلية تشارك فيها جميع القبائل، وذلك بعد أنْ اتفق الشيخ حميد مع الضباط الوطنيين بأنْ لا يعتدي الجيش على القبائل، ولا تعتدي القبائل على الجيش.
وأكد المناضل عبدالله السلال أنَّه قام حينها بتعبئة طلاب الكلية الحربية، والشرطة، والطيران بأنْ يكونوا سندًا لتلك الحركة، وأضاف: «ولكن تخاذل بعض القبائل، وتردد بعض الإخوان - يقصد زملائه في الجيش - قد أفشل هذه الخطة.. حيث ذهب ضحيتها الشهيد حميد الأحمر ووالده.. والشيخ عبداللطيف بن راجح.. ثم أعقب ذلك سجن مجموعة كبيرة من المشايخ».
تمردات عسكرية
بدأ النظام الإمامي - كما خطط الأحرار - ينهي نفسه بنفسه، وفي الوقت الذي قام فيه بعض أمراء بيت حميد الدين - مثلًا - في عزل الأمير محمد البدر أسريًا، من خلال تركيز الأضواء على الأمير الحسن، بدأ أنصار الأخير في إثارة المشاكل، وإعلان التمردات؛ وهو الأمر الذي خَدم مُعارضي ذلك النظام بشقيهم المُستتر والظاهر.
ففي مُنتصف عام 1959م شَهدت مُدن البيضاء، ثم صنعاء، ثم تعز، ثم الحديدة، تمردات عسكرية قام بها عدد من أفراد الجيش النظامي، حيث قاموا بإحراق ومُحاصرة مَنازل بعض المسؤولين الإماميين، وقد كان للأمير الحسن الغاضب من حرمانه من ولاية العهد، والمُستغل لذهاب أخيه الإمام أحمد للعلاج في روما يد فيها، وبتوصيف أدق في بعضها.
وفي مدينة البيضاء خرج الجنود عن طاعة حاكم اللواء مايو 1959م؛ بسبب عجز الأخير عن دفع مُرتباتهم، وقاموا بإطلاق النار على مَباني الحكومة، وأشاعوا الفوضى في المدينة الصغيرة؛ الأمر الذي جعل الأمير محمد البدر يتدخل، ويُسارع باعتقال ذلك النائب، ويرسل للجنود المُتمردين مَبلغًا من المال، كحل مُؤقت.
وفي بداية الشهر التالي التهمت الحرائق مَخازن الحبوب في عُرضي صنعاء، فسارع ضباط الجيش بتوجيه الاتهام للقاضي يحيى أحمد حسين العمري، الغاضب لحظة ذاك من قرار عَزله من عَمالة تلك المدينة، والذي أراد - حسب اعتقادهم - إثبات فشلهم وفشل خَلفه؛ فقاموا من فَورهم بإحراق مَنزله ومنزلين لمَسؤولين آخرين، وبالتجائه إلى الحدا، قام أفراد من تلك القبيلة - بتحشيد منه - باحتلال مَرافق حكومية في مدينة زراجة، الأمر الذي زاد الطين بلة.
سارع الأمير محمد البدر بِحظر التجوال في مدينة صنعاء، واعتقال عددٍ من الضباط والجنود، وإعلان بعض الإصلاحات، وتعيين القاضي محمد حسين العمري عُضوًا في المجلس النيابي الذي استحدثه حينها، إرضاءً للأسرة الغاضبة، وحين شَعر أنَّ الموقف سيخرج عن سيطرته، راسل عددًا من مشايخ حاشد وبكيل طالبًا حضورهم لنصرته، ومعهم مجاميع من قبائلهم، وبالفعل تَوافد الأخيرون، وبفترات مُتفاوتة، وقد قدرتهم إحدى الإحصائيات إجمالًا بـ 20,000 مُقاتل؛ الأمر الذي صَعَّبَ الموقف، وولَّد أحداثًا ثورية سبق أنْ تحدثنا عنها.
وبعد أيام مَعدودة من حَادثة حرق منازل المسؤولين في مدينة صنعاء، أراد جنود غاضبين في مدينة تعز اقتحام منزل القاضي أحمد محسن الجبري بالقوة 12 يونيو 1959م، والقبض على أخيه القاضي علي الذي تشاجر صبيحة ذلك اليوم مع أحد الجنود، وذلك بعد أنْ اتهمه الأخير بإجازة زواج زوجته من شخص آخر، قبل أنْ يُطلقها! وقد أسفرت تلك المُواجهات عن قتل ستة جنود، وقتل القاضي أحمد بعد أنْ أعلن استسلامه، وقتل أخيه علي المُتسبب بتلك المشكلة.
وبما أنَّ الأخوين القتيلين ينتميان لخولان البكيلية، فقد تَداعى أبناء تلك القبيلة للثأر، وطالبوا الأمير محمد البدر بتسريح الجيش، ووعدوه بدعمه بـ 10,000 مُقاتل إنْ هو فعل، وقد عمل الأخير على إرضائهم، وإعطائهم بعد أنْ توافدوا إلى مقر إقامته في مدينة صنعاء المزيد من الأموال، وأجبروه وأقرانهم من القبائل الأخرى على الاستدانة من التجار، بعد أنْ استنفدوا خزينته.
ورغم السِلبيات الكثيرة التي رَافقت تلك الأحداث، إلا أنَّ هناك جزئية إيجابية ما كانت لتحدث لو لم يَتوافد مُعظم مَشايخ حَاشد وبكيل ورعاياهم إلى صنعاء، فقد شهدت تلك المدينة لقاءات سرية وغير سرية جمعت عدد منهم بثوار آخرين، مدنيين وعسكريين، وبدأ بعضهم يُفكر بصوتٍ عالٍ، ويعلنها صراحة بأنَّ لا حل إلا بإقامة النظام الجمهوري، إلا أنَّ جواسيس الإمامة تابعوا تحركاتهم، ورفعوا تقاريرهم الكيدية إلى الإمام أحمد، وبصورة مبالغ فيها، وبعودة الأخير من رحلته العلاجية في روما انتهى - كما سبق أنْ ذكرنا - كل شيء.
أدت ردة الفعل الانتقامية الإمامية تجاه قادة تلك التحركات الثورية إلى تنامي الغضب الشعبي، وفي ذروة ذلك الغضب قام الملازمان عبد الله اللقية ومحمد العلفي بِمُحاولة اغتيال الإمام أحمد في مُستشفى الحديدة 26 مارس 1961م، بمساعدة زميلهما الملازم مُحسن الهندوانة الذي قادته الأقدار إلى مكان الحادث. صحيح أنَّ العملية فشلت، إلا تأثيراتها هدّت البيت الإمامي الحاكم، وأشعرته بالرهبة، وقُرب النهاية.
عمل الإمام أحمد حينها على إعادة ترميم البيت الإمامي المُتداعي، وأعاد ممتلكات بيت الوزير المصادرة منذ فشل الثورة الدستورية ديسمبر 1961م، واستدعى قبل ذلك أخيه الحسن من نيويورك، وذلك لحسم مسألة ولاية العهد، وقد حصل الأخير على أموال من ممثلي الاحتكارات النفطية الأمريكية، ورجال الأعمال، وقدمها كرشوة لكبار الإقطاع والموظفين، ولكن دون جدوى.
وقف الإمام أحمد بقضه وقضيضه مع ولده الأمير محمد البدر، وكلفه بتشكيل حكومة جديدة لم يكن فيها سوى شخص واحد الأسرة الحاكمة، هو الأمير الحسن بن علي، والأخير شاب طامح، استطاع خلال تلك الحقبة أنْ يكسب إلى جانبه كثير من الأنصار، كان بعضهم من الأحرار الأوائل، وأعضاء الاتحاد اليمني.
والأكثر أهمية أنَّه - أي الإمام أحمد - استغل فشل محاولة اغتياله في مستشفى الحديدة مارس 1961م، وأقر بخطاب رسمي بثته الإذاعة ولاية العهد لولده الأمير محمد البدر، حيث قال: «شعبي العزيز: قد علمتم ما كان بعد مؤامرة الاغتيال من قلق وخوف وتحرك ذوي الأطماع ومحبي الفتنة.. وبَعُدَ ذلك على أكثر العلماء وذووا الفضل والعقال والمشايخ، وجدوا علينا جدًا عظيمًا، وحملونا حجة الله إذا تساهلنا في أمرهم.. وقيامًا بما يجب علينا لأمتنا وشعبنا، استخرنا الله سبحانه، وأخذنا على الولد البدر محمد بن أمير المؤمنين حجة الله العظيمة، وعهده الشديد في استقامته، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..».
نقلًا عن صحيفة (26 سبتمبر)