أجاد غالبية الأئمة فن تجميل التُقية، والتبرير لها، رُغم أنَّ مَذهبهم «الهادوي» يُحرمها، وكقارئ فاحص لماضيهم، تأكد لي ذلك بعد طول تتبع ودراسة، كنت أعتقد أنَّ مَقولة «يكذبون كما يتنفسون» حكراً على أحفادهم الجُدد، إلا أنها كما تُشير المَصادر لصيقة بهم منذ مئات السنين، ومن يدري؛ ربما تكون البند الخامس عشر الغير مُعلن من شروط توليهم.
طوال فترة حكمه، بادل «المظفر» يوسف إساءات «الإماميين» بالإحسان، وكان دائماً ما يمد يده للصلح، ويسعى لوحدة الصف، رغم طعنهم إياه من الخلف، تعاملوا مع حزمه ولينه بخسة، نقضوا العهود والمواثيق، وسعوا بكل الوسائل لاختطاف الحكم والحلم، وكان عاقبة كذبهم وخداعهم، مَزيداً من الذُل، مَزيداً من الانكماش.
بعد مقتل «المهدي» أحمد بن الحسين بثلاثة أيام «ربيع الأول 656هـ / فبراير 1258م»، أعلن الحسن بن وهاس الحمزي نفسه إماماً، وهو أحد خاذلي الإمام الصريع، وأحد أبرز قواده، بايعه البعض، وخذله كثيرون.
خذله الشيخ الستيني الحسن بن بدر الدين محمد، نكث بيعته، وأعلن من «رغافة ـ صعدة» نفسه إماماً «25 شوال 657هـ»، وتلقب بـ «المنصور»، وهو من نسل «الهادي» يحيى، كان قليل الأنصار، مال عنه علماء مذهبه، وتخلى عنه بنو عمومته، ومَدحه الشاعر القاسم بن هُتيْملٍ بقصيدة طويلة، جاء فيها:
إن الإمامة صارت من بني حسن
إلى إمامة هاد من بني الهادي
خليفـة طابت الدنيا بدولته
فنحن في جُمعٍ منه وأعياد
الأمير صارم الدين داؤود بن عبدالله بن حمزة كان أيضاً من جُملة خاذليه، استبد بالأمر دونه، ودارت بينهما حروب وخطوب، الأمر الذي دفع «ابن وهاس» إلى الشكوى والتذمر، ومن أشعاره التي توضح معاناته:
إن الشدائد ما مرت على رجل
إلا وكانت له في الدهر كالسرج
وكلما امتحنت ذا فطنة حجج
كانت له حجج ناهيك من حجج
أسره الأمير «الرسولي» أسد الدين محمد مرتين في حروبٍ سابقة، وأسره للمرة الثالثة بداية العام «658هـ»، في موقعة «عصافر ـ حاشد»، وهي معركة كانت بين «الحمزات» أنفسهم، أعطاه لصديقه الأمير صارم الدين داؤود، ليقوم الأخير بحبسه لعشر سنوات في حصن «ظفار ـ ذيبين»، مُتنكرا لصلة القرابة التي تجمعهما.
حدث ذلك، بالتزامن مع فرض «المظفر» سيطرته النهائية على صنعاء وضواحيها، جاعلاً عليها الأمير سنجر الشعبي، بدلاً عن ابن عمه الأمير المُتمرد أسد الدين محمد، التجأ الأخير إلى صارم الدين داؤود، وسانده في معركة «عصافر» السابق ذكرها، وحين اشتدت مُطالبة السلطان له، تخلى أصدقاؤه عنه، فعاش طريداً شريداً، وكانت نهايته سجيناً في حصن تعز.
وفي العام التالي، أعلن يحيى بن محمد السراجي من منطقة «حضور» في جبل النبي شعيب نفسه إماماً، تلقب بـ «الناصر»، وهو ينتسب لـ «سراج الدين» من نسل زيد بن الحسن بن علي، قدم أبوه قبل عدة سنوات من العراق، كواحد من طامحين كثر جاءوا إلى «اليمن الأعلى» طمعاً في الزعامة والأنصار.
كان الابن مُقدماً عند أهالي صنعاء، حارب «الرسوليين» عام قيامه، فهزموه، هرب إلى «بني فاهم ـ الحيمة»، فأمسك به سكانها، وسلموه للأمير سنجر الشعبي، فكحل الأخير عينيه بنار حتى أعماه، مُسقطاً بذلك أحد شروط الإمامة عليه، وقد استاء «المظفر» ـ كما أشار «الخزرجي» ـ من ذلك كثيراً.
لم تكن العلاقة بين «الحمزات» و«الرسوليين» خلال تلك الحقبة هادئة؛ بل سادها كثير من التوتر، انقسموا إلى فريقين، فريق موالٍ بقيادة عز الدين محمد بن أحمد، وفريق مُعارض بقيادة عمه داؤود، سيطر الأخير على عدد من الحصون، وحاول أن يقيم حسن بن محمد القطابري إماماً، إلا أن علماء «الزيدية» وأنصارها عارضوا ذلك وبشدة.
استغل «المظفر» ذلك الانقسام، فعمل جاهداً على استقطاب مُعارضيه، اشترى ولاء غالبيتهم، ثم سارع بتوجيه الحملات العسكرية للسيطرة على مُعظم مناطق وحصون «اليمن الأعلى»، وكانت نهاية «الحمزات» - بفعل تلك السياسة الحازمة قاب قوسين أو أدنى - إلا أنَّ تصرفات واليه سنجر الشعبي المُترددة، حالت دون تحقيقه نصر حاسم.
حدثت أولى المواجهات بين الجانبين في «الحلق ـ الجوف»، قريباً من براقش «665هـ / 1267م»، قتل «الحمزات» الأمير بكتمر القلاب ومن معه، الأمر الذي أغضب «المظفر»، ليأمر بتوجيه حملة عسكرية قوامها «3,500» مُقاتل للسيطرة على الوضع، اجتازوا أودية الجوف، وهزموا على أبواب مدينة صعدة «الحمزات» هزيمة منكرة، وقتلوا بعض قاداتهم.
استعاد «الحمزات» بعد ذلك زمام المُبادرة، اتحدوا بعد انقسام، وأخرجوا من السجن قريبهم الحسن بن وهاس، سيطروا على مدينة صعدة لبعض الوقت، ونجحوا في منع سقوط حصني «ثلا، وظفار»، وحين تبادر إلى مسامعهم استعداد «المظفر» لجولة حاسمة، سارعوا من فورهم بالمطالبة بالصلح.
كانت الرغبة في إنهاء ذلك الصراع متوفرة عند الجميع، عقدوا صلحاً مدته عامان «شعبان 668هـ / إبريل 1270»، قُسمت بلاد صعدة بموجبه إلى ثلاثة أقسام، نصف لصارم الدين داؤود، ونصف مناصفة بين «المظفر» يوسف وعز الدين محمد، وقد نجح الأخير بالسيطرة على النصف الأول، بعد حروب بينه وبين عمه، سقط فيها خلق كثير من الجانبين.
ما أن بدأت الدائرة تضيق على صارم الدين داؤود؛ حتى سارع وحشد من علماء «الزيدية» بالتوجه إلى «ابن وهاس»، صارحوه برغبتهم وإجماعهم على أن يتولى الأمر، إلا أنَّه رفض مطلبهم، وقيل أنَّ سبب اعتذاره رؤيا رأى فيها النبي «ص»، قال له فيها: «يا حسن إذا لم تكن الإمامة كالشمس الشارقة وإلا فليست بإمامة»، وقد عبر أحد الشعراء عن ذلك قائلاً:
وإلى ابن هاوس أتوا من فورهم
مُستنهضين قيامهُ فاستعجلوا
فأَجابهم وإذا تكون عظيمة
ندعى لها أين الإمام الأول
بالعودة إلى «المنصور» الحسن بن بدر الدين، الذي لا ندري هل هو الإمام الأول أم غيره؟! فقد كان هو الآخر ضعيفاً للغاية، انحصرت إمامته في منطقة «رغافة»، وفيها مات «محرم 670هـ»، ليعلن في نهاية ذات العام ابن أخيه إبراهيم بن تاج الدين أحمد نفسه إماماً، وتلقب بـ «المهدي».
بدأ الإمام الجديد دعوته من حصن «ظفار ـ الظاهر»، كان كثير الأنصار، نقض «الحمزات» عهدهم مع «الرسوليين» وتحالفوا معه؛ كونه نسبهم، فأمه زينب بنت عبدالله بن حمزة، وحين امتنع بعضهم عن مبايعته، عمد خاله صارم الدين داؤود إلى قائم سيفه، وأقسم قائلاً: «لئن تأخر عن مبايعته أحد لأضربن عنقه».
تقوى بذلك أمر «الإماميين»، ـ بشقيهم «الحمزي» و«الهادوي» ـ توجهوا بأكثر من «10,000» مُقاتل جنوباً، حاصروا صنعاء لعدة أشهر، ودارت بينهم وبين «الرسوليين» عدة مَعارك، كانت الغلبة في معظمها للأخيرين، وفي منتصف العام «671هـ» قامت «المماليك الأسدية» ـ مُقاتلو الأمير السجين أسد الدين ـ بهجوم ليلي مباغت على القوات الإمامية المُتمركزة في حدة، ونكلوا بها شر تنكيل.
وإكمالاً للمشهد أترككم مع ما قاله صاحب «السمط الغالي»، وهو مؤرخ عاش تلك التفاصيل، وشارك في أحداثها: «ثمّ أن الأسدية نهضوا آخر ليلتهم تلك، وخرجوا لعسكر الأشراف، فقتلوا منهم خمسين قتيلاً، وجزوا رؤوس جماعة منهم، ودخلوا بها إلى صنعاء، فحينئذ سكن ما عند الناس من التخوف، وعلموا أن الأشراف لا تأثير لهم».
وفي «ربيع الأول 672هـ»، وحصار صنعاء على أوجه، كانت موقعة «بيت حنبص»، وهي قرية تقع على سفح جبل عيبان، هُزم فيها «الإماميون»، وولوا هاربين، فأنشد الشاعر «الرسولي» غازي بن المعمار مُستهجناً:
ولما فتحنا بيت حنبص عنوة
وجدنا بها الأدواح ملأ من الخمر
فإن تكن الأشراف تشرب خفيةً
وتظهر للناس التنسك في الجهر
وتأخذ من خلع العذار نصيبها
فإني أمير المؤمنين ولا أدري
اصطلح بعد تلك المَعركة الطرفان، لينقض «الإماميون» بعد عامين الصلح «ربيع الآخر 674هـ / سبتمبر 1275»، دخلوا صنعاء بـ «7,000» مقاتل، بدعوة من «المماليك الأسدية» الغاضبين لمقتل أحد أقربائهم في جيش سنجر، المُنشغل حينها ببعض المهام خارج المدينة المُهددة.
واصل «الإماميون» بعد نصف شهر تقدمهم صوب ذمار، إلا أنَّ «المظفر» يوسف صد في قرية «أفق ـ عنس» زحفهم، هزمهم شرَّ هزيمة، وغنم أموالهم وأسلحتهم، وظفر بإمامهم إبراهيم بن تاج الدين، اتهم الأخير أخواله «الحمزات» بخذلانه، وأنهم باعوه بعرض من الدنيا قليل، وقال عن هزيمته:
حتى إذا خان بعض الأهل موثقه
وغره فضة السلطان والذهب
فإن غلبت فما هذا بمبتدع
فكم بهاليل غلابون قد غلبوا
وبعد ذلك جاءوا بي إلى ملك
له المفاخر والعلياء مكتسب
في قصيدته الطويلة التي مدح فيها «المظفر»، لم يشر الشاعر «الزيدي» القاسم بن هُتيْملٍ لذلك، تحدث عن مواجهة حقيقية حدثت بين الجانبين، وعن هروب مخزي للطرف المهزوم، ناقلاً تفاصيل المعركة بأسلوب بديع، كيف لا وهو شاعر عصره، القائل:
لاقى بنو الهادي وحمزة ضعف ما
لاقت سليم بجانب الثرثار
طلبوا ذمار فرد سعدك ذالها
دالاً وأي هزيمةٍ ودمار
حفوا بسيدهم فلما أيقنوا
بالموت طاروا عنهُ كل مطار
فأَسرتهُ مُستبسلا وحفظتهُ
شرفاً بأَفضل حوطةٍ وجوار
اقتيد الإمام الأسير صوب مدينة تعز، ـ حاضرة «بني رسول» الزاهية ـ لتسقط بأسره إمامته، أكرمه «المظفر» أيما إكرام، وأحسن مُعاملته، واحتجزه بقلعة القاهرة جوار الأمير المُتمرد أسد الدين، وكانت وفاته بعد وفاة الأخير بسبع سنوات «صفر 683هـ / إبريل 1284»، ودفن بمقبرة «الأجيناد».
قال «الخزرجي» عنه: «كان من الشجعان المشهورين، والفرسان المذكورين»، ونقل عنه شعراً حسناً، يصف فيه أسره، ويعتذر فيه لـ «المظفر»، جاء فيه:
خطب أَلم فأَنساني الخطوب معا
وصير القلب في أحشائه قطعا
ثم انتهيت إلى سوح بهِ ملك
يحل بيتاً من العلياء مرتفعا
فجاد بالعفو والإحسان شيمتهُ
ولم يزل للعلى والجود مصطنعا