يرى خبراء الاستراتيجيات بعيدة المدى أنه لو خُيِّرَت الولايات المتحدة كأغنى بلدٍ في العالم وأكبر مشروع دولة في التاريخ بين (الثروة) و(الإدارة) لاختارت الأخيرة.. أما السبب فواضحٌ، وهو أن الثروة لا تصنع الإدارة، بل أنها دون (إدارة) يمكن أن تتعرض للتبديد والضياع.
أما الإدارة فيمكنها صون الثروة، وحتى أن تصنعها من العدم.
هناك أمثلة على دول غنية تكاد بسبب سوء الإدارة أو غيابها تنفق من احتياطياتها أو ما يوصف بصناديقها السيادية، ووصل الأمر ببعضها حد الاستدانة من الخارج، أو الاستحواذ في الداخل على ما يسمى بالأموال المنهوبة من قبل بعض كبار رجال الأعمال والمتنفذين الأثرياء.
وثمة نماذج لدول كانت فقيرة، وأصبحت بفضل الإدارة الكفؤة والشفافة المحكومة بالقانون وبمبادئ المساءلة والمحاسبة في صدارة الدول الثرية، كما هو الحال في النموذجين الماليزي والسنغافوري مثلاً!
الإدارة الناجحة هي التي يمكنها أن تضع لها (هدفاً) وعندما يتحدد الهدف فإن (الطريق) إليه تصبح واضحة تماماً، وذلك عبر التعليم الجيد، المتوازي والمتوازن بين العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك بما يلبي احتياجات التنمية الشاملة في جميع مجالاتها.. تُعلي من شأن قيم العلم والعمل بما يؤدي إلى تطور الإدارة نفسها، كما يثري سوق العمل بتنوع المنتجات وجودتها ووفرتها.
عندما تحدثت في البداية عن رهان الولايات المتحدة على الإدارة قصدت ضرب المثال فقط عن دولة قطعت بفضل الإدارة أشواطاً في التقدم يصعب اللحاق بها.
إذًا أخذنا اليمن كنموذج من العالم الثالث فقد كان لديه بفضل عائدات المغتربين اليمنيين في دول الخليج خلال الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي إحتياطيٌ من النقد الأجنبي يفوق قدرته على استثماره في برامج طموحة وخطط للتنمية، وذلك لافتقاره للإدارة، وبسبب عدم استقرار الوضع السياسي سواء في العلاقة مع جنوب البلاد الاشتراكي، أو بسبب خلاف الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي مع قوى عسكرية وقبلية أطاحت به وبمشروعه لبناء إدارة حقيقية، وبالتالي تبددت بعد ذلك تلك الاحتياطيات بسبب غياب الإدارة.
في مثال آخر على ما قد تتسبب فيه الثروة من أضرار في ظل غياب (الإدارة) السليمة لها فإن الفرد يتحول إلى كائن طفيلي يشتري ما لا يحتاج، كما يصبح المجتمع مجرد وحش استهلاكي يستورد كل شيئٍ ولا يِصدِّر أي شيئ.
يقول الكاتب الكويتي د. حامد الحمود في مقال له بجريدة القبس بتاريخ ٢٩ إبريل ٢٠٢١ "إن توفير دخل شهري من دون عمل، خلق أجيالاً من الكويتيين محبطة لا تدري ماذا تريد، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن تراكم ملفات الفساد على مدى العقود الثلاثة الأخيرة زعزع ثقة المواطنين بالدولة وبمشروعها الإصلاحي".
صحيح أن هنالك اليوم بعض المراجعات في بعض البلدان العربية، خصوصاً الغنية منها، لكن هذه الدول لا تزال مرتبكة وبوصلتها مضطربة ولا تدل على الاتجاه الصحيح، حيث فاتها الكثير من الوقت خسرت معه المئات من المليارات في صراعات لا طائل منها، وفي أحسن الأحوال لم تتمكن سوى من إيجاد بُنىً تحتية هشة لا تحتمل فيضان بضعة سيول، وصناعات تجميعية تركيبية فقط، غير مجدية، وتعتمد على مواد ومعدات مستوردة وأحياناً عمالة أجنبية بلا مهارة ولا تدريب كافيين ، وأخرى عديدة دون جدوى!