من بداهة الكلام القول: إن صنعاء هي المكسب المركزي لجماعة الحوثي والورقة الأقوى بيدها، ذلك أننا أمام أكبر محافظة يمنية من حيث الوزن على كل المستويات، بشريًا واقتصاديًا وسياسيًا. ولكونها كذلك، فالحوثي يوليها معاملة خاصة، من ناحية إحكام قبضته عليها والسعي المتواصل لتجذير وجوده فيها بحيث تغدو سيطرته عليها أبدية. بتعبير أخر، رباط كاثيولوكي، لا انفصام بعده.
بخلاف الجو المشاع عن صنعاء من خارجها، وبخلاف رغبة الحوثي باستملاك صنعاء للأبد، يمكن للمراقب المدقق، أن يكتشف بسهولة أن الحوثي لم يتمكن من تذويب مجتمع صنعاء بشكل نهائي، وتحويله لمجتمع يدين بولاء عميق وحقيقي للسلالة. صحيح أنه نجح في اخضاعه كليًا؛ لكنه لم يُذبه والأمر هنا لا يعود لتكاسل حوثي في محاولته صهر المجتمع بقدر ما يعود لصنعاء ذاتها وطبيعة مجتمعها، وبالطبع نعني هنا أمانة العاصمة، لكونها خليطا مركبا من كل مناطق اليمن وبما يصَّعب أي امكانية لصهره بصباغ طائفي موحد.
يمكن لباحث سوسيولوجي أن يتجول شهرا في صنعاء، ويعمل على رصد طبيعة المجتمع من الداخل، سيكتشف بسهولة وبالملاحظة المباشرة، أننا أمام سلطة حاكمة تتحرك بموازاة مجتمع يبدو منفصلا بشكل كبير عنها، وللدقة القطاع الأعظم من مجتمع صنعاء يعيش كجزيرة منفصلة وبلا جسور تمازج أو ارتباط وثيق مع السلطات الحاكمة في صنعاء.
يمكنك ايقاف أي رجل بالشارع، وسؤاله عن اسم وزير ما، وستتفاجأ، أن 90% من المجتمع لا يعرف عن مسؤولي الجماعة شيئًا، وبالكاد يحفظون اسم عضوها المنتحل لصفة الرئاسة، المدعو مهدي المشاط. علمًا أن اليمني مواطن مسيس بشكل كبير، ومتابع ومتفاعل مع أحداث العالم كله، باستثناء اهتمامه بسلطة الحوثي وأخبارها، هل هناك نبذ أكثر قسوة ومهانة من هذا..؟ تلك عقوبة مجتمعية كافية يمارسها المجتمع ضد سلطة واقعية لا يعترف بها، كما لا تعترف هي به أو لنقل لا تفعل شيئًا ولو كدعاية؛ بموجب انتحالها للصفة.
والحال هذا، هناك إحساس خفي لدى السلطة الحاكمة في صنعاء أن جزءا كبيرا من مجتمعها لا بدين لها بالولاء، لكن خدعة الحرب والجو النفسي الذي تعيش فيه السلطة السلالية الحاكمة يجعل شعورها هذا خافتا وغير فاعل. وحتى في حالة بقائها يقظة تجاه هذه القطيعة التلقائية بينها وبين مجتمع العاصمة، هي لا تملك ازاء هذا الوضع شيئًا ولا يمكنها إجبار مجتمع ما على منحها ولاءه الباطني مهما فعلت.
وعليه، لا يتبقى لجماعة الحوثي من وسيلة لضمان تحييد المجتمع عن أي احتمالية مستقبلية لمناهضتها، أو درء مخاوفها اللاشعورية من المجتمع، سوى أن تلجأ لتفعيل مستمر ومتكرر لخطتها المعروفة في إنهاكه، فحين تكون عاجزة عن انتزاع ولائه، عليها أن تجرده من امكانية مقاومتها، سحقه نفسيًا وبشكل متعمد وبكل وسيلة ممكنة.
حسنًا، ننتقل للشطر الثاني من الكلام، ومن بداهة الكلام أيضًا، القول بالتالي: لم يتعرض المجتمع اليمني طوال عقود الحياة الحديثة للسحق النفسي، كما تعرض في هذه السنوات الأخيرة مذ سيطرت جماعة الحوثي على السلطة، ولم تمارس جهة داخلية هذا المستوى من الإذلال كما تمارسه جماعة الحوثي وبمنهجية وإصرار ووعي كامل بما تقوم به.
إذلال الحوثي للمجتمع يتجاوز النقمة السياسية من خصومها ومعارضيها، ويتخذ طابع المنهجية المتعمدة ضد الناس كافة؛ لتدمير أي قوة حيوية في المجتمع، إمعان كسر نفوسهم وإشاعة حالة دائمة من الهزيمة والإحساس المتواصل بالعجز والمهانة.
يحتاج المرء لرواية كاملة، سردية روائية بالمعنى الأدبي والفني؛ كي يتمكن من تصوير الأثر النفسي المتكدس في بواطن الناس؛ نتاج سبع سنوات من السحق المتواصل لكرامتهم وطرق الاذلال التي مارستها الجماعة الحوثية، ضد المجتمع بشكل عام، وليس الفئة التي تعرضت لأذية مباشرة من قبل الحوثي.
من يتجول في شوارع صنعاء منذ الصباح حتى المساء وآخر الليل، يمكنه ملاحظة وجوه الناس وما توحي به مظاهرهم ونظراتهم، حالة من الهوان العميق وفقدان أي إحساس بقيمتهم الذاتية. رجل في الستين يخرج الساعة السادسة صباحًا؛ كي يأخذ مكانه في طابور الغاز كل أسبوع، انتظارًا لعاقل الحارة، متى يُطل عليه ويمنحه الكرت الخاص بدبة الغاز.
وآخر يسهر في "باص صغير" منذ أربعة أيام وبثياب رثة وقد أحال البرد وجهه لشكل مختلف، وهو منتظر وصول دوره؛ لتعبئة دبة بترول، ثم الذهاب للفرزة عله يتمكن من استخراج رزق لأطفاله. مجتمع يعيش لسنوات داخل دورة حياة يومية وأسبوعية وشهرية تشبه ما سبق، كيف يمكنه أن يفكر بأمور أخرى تتعلق بمستقبل البلاد أو التخطيط لرفع مظلمة عامة.
الخلاصة: بقدر ما هي وسيلة الحوثي في إنهاك المجتمع وتجريده من أدنى احتياجاته بهدف تدمير كل امكانية نفسية تدفعه للتمرد عليها، ناجعة مؤقتًا؛ لكنها حيلة قابلة بل ومؤكد أنها مولدة لرد فعل عكسي تماما، فالناس قد يحتملون أقسى أنواع المعاناة وبصمت ويتكيفون معها، ويستمرون في خضوعهم؛ لكن لأي مجتمع طاقة تحمل محدودة، وكلما تراكم الأذى والمعاناة التي يتلقاها، وحين تتوازى المعاناة مع خوف، تدريجيا، يصل الناس لنقطة انفجار، من حيث لا يتوقع أحد، بل ولا يستطيع أي باحث اجتماعي مهما بلغت عبقريته، أن يتنبأ بأي سلوك وبأي لحظة وبأي شكل يمكن للمجتمع أن ينفجر، هذا سلوك يمتاز بعنصر المباغتة.
ومهما اعتقد شخص ما وفقًا للظروف الموضوعية الحالية وقراءته للأحداث بناءً على معطيات اللحظة، أن انفجار المجتمع مستحيلا، ومهما حشد من التفسيرات لتأكيد استنتاجه هذا، سوف يتفاجأ أن حركة المجتمع، سلوك غير قابل للتوقع، وغير ممكن اخضاعه للتحليل المنهجي والرصد الرياضي، وفقًا لحسابات وبيانات وأرقام احصائية، بل إن هذا السلوك هي هكذا طبيعته، ولو كان غير ذلك، لما كان تعبيرا أصيلا عن الحركة الباطنية للمجتمع. وعليه فصنعاء مسحوقة نفسيا، هذا يجعل جماعة الحوثي مطمئنة لخموده، وكلما أمعنت في سحقه، ضاعفت من شدة انفجاره، هذه ليست تنجيمات غيبية، بل تلك هي طبائع أي مجتمع، من شرارة صغيرة، تندلع النار وتنهار كل الحصون دفعة واحدة، والأيام خير كاشف على صحة هذه الفكرة.