في سياق المراجعات المستمرة لقضية الهوية الوطنية الحضارية اليمنية ماضيا وحاضرا، يركز الأقيال في سعيهم لمواجهة حركة التفكك الطاحنة والشاملة التي يمر بها المجتمع اليمني، على إعادة إحياء الهوية والإرث الحضاري التاريخي اليمني وما يجمع اليمنيين من قيم ومشاعر وتصورات ورموز مستبطنة في اللاشعور والتراث والتاريخ.
وهذه المساعي الكبرى الاكثر طموحا للأقيال، لا تعني عودة الهوية اليمنية الى الطبعة الأقدم والابعد عن العصر من الإسلام أو الدعوة الى تكوين هوية تاريخية يمنية مستقلة تماما عن الهوية الثقافية العربية الإسلامية التاريخية، وإنما استيعاب الروح اليمنية وتخليص الهوية المحلية من لباسها الإثني (السلالي المذهبي والمناطقي)، وإعادة بنائها على أسس وطنية قومية حضارية اكثر انفتاحا وانسانية وتتفق مع معايير العصر.
وهذا المضمون العميق للأجندة التحررية القومية التي تحرك اليوم الأقيال بالفعل، لاشك بأن هدفه وغاياته الكبرى إعادة تأسيس الهوية السياسية الوطنية اليمنية، أي تكوين رابطة الأمة اليمنية السياسية التي تعد التعبير الأوضح للانخراط في التاريخية الحضارية، وتأسيس علاقة الفرد بالدولة وبقية الافراد، والتي ترتبط بمجموعة من القيم الأساسية التي لا تقوم امة ووطنية من دونها، ومن اهمها الحرية الشخصية، وحكم القانون والعدالة، والمساواة والتعاون والتضامن بين الجميع، بغض النظر عن الاختلافات النابعة من الهويات الاهلية الأولية، بيد أن هذا المشروع لا يوجد من تلقاء نفسه ولا نعثر عليه في الطبيعة كما هو وإنما هو ثمرة جهد فكري وسياسي منظم لبناء قواعد الوحدة الوطنية، فالهوية السياسية بناء مستمر يعاد النظر فيه كل لحظة، وتنشأ هذه الهوية السياسية بموازة تكوين الأمة، ولا يمكن أن يتقدم هذا المشروع إلا بمقدار ما ينجح الأقيال في حراكهم إلى رفع مستوى الوعي المجتمعي الذي يسهم في تغير نظرة الفرد اليمني إلى نفسه ورفضه أن يعامل، او أن يتعامل مع غيره، كمولى أو "زنبيل" وتابع وزبون ومحسوب لا إرادة خاصة له ولا استقلال ذاتي، ويدفع بالمواطنين إلى الخروج عن عصبياتهم وهوياتهم الأولية (القبلية والطائفية والمناطقية) نحو فضاءات أوسع يلتقي فيها الفرد مع أقرانه في المواطنية، ومن ورائهم، مع أبناء الإنسانية، وبالتالي يدفعهم للانخراط والاندماج في مغامرة تكوين رابطة الأمة اليمنية السياسية التي تقود إلى نشوء روح جماعية يمنية جديدة، تتجدد عبرها الجماعة ذاتها وتتحول إلى جماعة وطنية.
والحال أن هذا المشروع الطموح الذي ما يزال في المهد اصطدم بجدار مليشيا الطغيان المافيوية الهاشمية والطغم المليشياوية الأخرى المضادة والمعادية للهوية الوطنية اليمنية الجامعة، التي لجأت، في اطار سعيها لإجهاض هذا المشروع الوليد في المهد والحفاظ على الأوضاع القائمة، الى التعبئة الدينية لشيطنة الأقيال وتكفيرهم وتخوينهم، وتغذية المخاوف من الدعوات التي تسعى لإعادة إحياء الهوية والارث الحضاري التاريخي اليمني، كونها، كما تزعم، دعوات معادية ومنافية للدين ومؤامرة يهودية وخارجية، والتحذير من الانجرار وراءها.
وما نشهده من حالة استنفار لهذه الجماعات المافيوية التي تضم الى جانب فئة الهاشميين ورجال الدين الأكثر رجعية قوى مناطقية وتكتلات مصالح انكشارية عسكرية وقبلية وأصحاب المصالح الاجتماعية المكرسة، وتحول محور اهتمامها إلى محاربة الأقيال والدفع الى تعبئة الرأي العام اليمني ضد مشروع تكوين الأمة اليمنية، لا يوضح لنا فحسب مدى خوف هذه العصبيات المافيوية من تنامي الحركات الشعبية التي تحمل مشاريع وطنية يمكن أن تقود الى نشوء روح وهوية جماعية يمنية جديدة، بل يكشف الستار عن إحدى معضلات اليمن الكبرى مع عصبيات الطغيان المافيوية المضادة، وخاصة مع المافيوية الهاشمية الكهنويتة وحلفائها التاريخيين، وهي أن الجماعة الهاشمية بحكم استنادها الى فكرة القداسة الإلهية العرقية، لا تمتلك شعورا وطنيا يمينا ولم تسطع منذ وصولها الى اليمن استيعاب الروح اليمنية، ويعاني اليمنيون من هذه المشكلة المولدة للنزاعات الدائمة وخسروا بسببها الكثير. وسوف نوضح بشكل مفصل في مبحث قادم هذه الإشكالية.