طوال عشرتي مع اللغة، وقراءاتي في فن القول وعلم الجمال لم أجد نفسي ذات يوم أمام امتحان لـ "مستوى" من اللغة يكفي لوصف رجلٍ كان جبلاً من الكلمات، وسماءً من أبلغ البلاغات مثلما أجد نفسي اليوم.
لطالما شعرت بالتفوق في حياتي بالاحتفاظ بكيمياءٍ من نوعٍ إبداعيٍ وإنساني خاص مع"مطهر الإرياني" بعيداً عن شوائب العلاقة المعقدة والمتشعبة بين أسرتينا وصورة بعض آل الإرياني في الموروث الوطني والشعبي كحكام أو مقربين من الحكم.
عندما ذهبت إلى دارٍ في حي "عين الرمانة" في دمشق ذات يوم رمضاني للقاء عمه رئيس البلاد الأسبق "عبدالرحمن" لسماع القول الفصل منه حول خلاف نشب حول دستور دولة الوحدة الناشئة عام ١٩٩٠، كان ذلك أفضل فرصة أتيحت لي في حياتي لتقليب تراب روحه، وللنبش في أضابير ذاكرة هذا الرجل "الاستثنائي" حول أمور أخرى غير التي ذهبت من أجلها إليه، وقد كان ذلك بفضل التقديم الضافي الذي تكرم به مطهر لتعريف عمه على الفتى الزائر له.
وبدلًا من عشرين دقيقة للقاء الرئيس الطاعن في السن إمتد اللقاء لأكثر من أربع ساعات خلع الرجل خلالها جوخه وعمامته و"توزته" وهي السلاح الجمالي لعلماء البلاد، وأخذني إلى وجبة عشاء متنوعة بين التاريخ والأدب والسياسة غير مرتب لها.
زاد هذا الكرم من قبل الرئيس الراحل من قناعتي بأن العلاقة مع مطهرعلاقة عقل إبداعية، روحية وإنسانية بامتياز لم أحظ بها مع أي أحد آخر في هذا البيت السياسي الزاخربالعلماء والمبدعين الأفذاذ بمن فيهم صديقي الراحل يحيى إبن مضيفي الرئيس.
وحين ذهبت مع أخيه رئيس الوزراء الراحل عبدالكريم إلى مأرب شرق البلاد أخذ مطهر بيدي للذهاب عصر ذلك اليوم إلى سدها القديم، وهناك أبهرني بقدرته على قراءة نقوش الخط المسند على جداريات السد، كأنه كان يقوم بترجمة فورية للغة إنقرضت قبل آلاف السنين.
لا أريد الحديث عن ملاحم مطهر الشعرية وقصائده الغنائية الخالدة، فلعل الكثير يعرف عنها ربما أكثر مما أعرف، لكني أريد الإشارة إلى مؤرخٍ وعالم آثار كبير استوقفني لسنوات طوال في حياتي بشغفه بعلم الأرض وتاريخ التطور البشري عليها.
عندما ذهبت ذات يوم إلى "أكسوم" على الحدود بين إثيوبيا وأريتريا، أعددت تقريراً تليفزيونياً حول ما التبس عندي من أوجه تشابه بين حضارة سبأ في هذا الجزء من إفريقيا مع ما كنت أعرفه عن الأمر ذاته في اليمن.
وعلى الفور جاءني إتصال هاتفي من مطهر إلى أديس أبابا لتفسير الأمر.
ليس مهماً فقط أن مطهراً كان كذلك، لكن أيضاً أنه تخلى عن ترف الحياة، زخرف السلطة والمناصب وتفرغ لخدمة عمه الرئيس "الكبير".
استخرج مطهر من ذاكرة عمه أفضل مذكرات تأريخه، بل أهمها على الإطلاق في رأيي في كل ما كُتب عن التاريخ السياسي لليمن في القرن الماضي.
عندما قرر زعيم مصر الراحل "جمال عبدالناصر" أن يضع حداً لمنتقدي تدخله العسكري في اليمن، خدعهم، وطلب منهم المجيئ للتشاور في القاهرة، ثم أودعهم أسوأ المعتقلات والسجون، لكن بقية من حياء أجبرته على وضع "الإرياني" الكبير تحت الإقامة الجبرية في منزل خاضع لمراقبة غير صارمة.
وطوال سنوات علاقتي مع مطهر لم نختلف يوماً بخلاف العلاقة مع شقيقة عبدالكريم، حيث كان التعامل معه يتوقف على طقس علاقتي بالرئيس الراحل "علي عبدالله صالح" عندما كان رئيساَ لوزرائه، أو وزيراَ لخارجيته.
لم أختصم يوماً مع مطهر أو يختلف معي، لكن مطهراَ لم يدع للخلاف سببلاً بيننا كما هي طبيعة البشر، بل لقد كان أسعد أيامنا حين نلتقي في دمشق أو صنعاء وغيرهما، هو بوجهه الستيني الشاحب البشوش، وأنا بوجهي الشاب العاشق، نتأمل في بَعضنا بمحبة واحترام ، لم تكن أحاديثنا الطويلة تبعث على ملل أحد منا من الآخر، بل للتشوق إلى معرفة كلانا إلى معرفة ما لدى الآخر من جديد.
قال لي مطهر إنه كان "يُطرب" لسماعي عند قراءتي لنشرات الأخبار في تليفزيون صنعاء، ليس فقط لسلامة اللغة وجودة الأداء كما قال ولكن لسماع "صوتٍ مثقف" وبصراحة فقد غبطت نفسي على هذا الإطراء من "مثقفٍ لغوي" مثل مطهر، وربما كان ذلك سبباً في جعلي كلما أقرأ نشرات الأخبار أشعر أن ملايين من المشاهدين والمستمعين حينها هم جميعاً من أمثال مطهر حساً ووعياً بمعنى الكلام وليس بصداه، وإدراكاً لجماليات الصوت قبل جودة الصورة.. كم يبعث فيك أمثال هذا الرجل الشعور بتحدي ذاتك لأن تكون أنت الذي يجب أن تكون!
قد تكون لي أكثر من عودة إلى مطهر في سياقات أخرى لكن تركيزي هنا هو على المشترك معه كصديق لم يخلق مثله في البلاد على الرغم من فوارق كثيرة كانت بيننا، السن، أماكن الإقامة، وقبل هذا وذاك منسوب المعرفة العالي عند مطهر مقابل ذلك النزر اليسير الذي كنت أمتلكه أمامه.
لعلي أجزم أن مطهراً أشعل في داخلي بركاناً من الهمة والاسئلة الكبرى، وقدراً من الاستبصار، والرؤية الأبعد مدى في الماضي والمستقبل على حدٍ سواء.