إذا ما استبعدنا العوامل الخارجية كما نعرفها بعد العام 2015، سنكتشف أن المتطلبات التي يقتضيها الإخضاع العسكري لمنطقة يمنية ما، من جانب جماعة مسلَّحة تتحرك في ظروف وطنية انقسامية مشابهة لما كان عليه الحال عام 2014 وبداية عام 2015، هي نفس المتطلبات تقريباً سواءً كانت هذه المنطقة في ما يسمَّى "اليمن الأعلى" أو "اليمن الأسفل".
فلم يكن دخول الحوثي محافظة إب أو شبوة ولحج أصعب ولا أغرب من دخوله ذمار وحجة والمحويت. وقد واجه في محاولة السيطرة على عمران وصعدة، على مدى عشر سنوات، صعوبات أعظم مما واجهه في البيضاء مثلاً منذ خمس سنوات.
قد يكون الإخضاع بالقوة سهل، لكن الاحتفاظ بما أخضعت لوقت طويل، وبالقوة وحدها، هو الصعب، لا سيما في اليمن.
وفي العادة تكون القبضة في المركز أقوى منها في الأطراف. وإذا كان من المألوف، في الظروف العادية، أن تبدأ المناطق البعيدة في التمرد قبل مناطق المركز، فإن كون تلك المناطق بعيدة هو ما يفسِّر أسبقيتها في التمرد وليس اختلافها المذهبي فقط.
ولئن دار أغلب القتال في حرب الجمهوريين وفلول الإمامة في مناطق "اليمن الأعلى"، فليس لأن هذه المناطق زيدية موالية كلّها بالفطرة للإمام، بل لأنها تقع في المركز أو محيطة به، ولأنها هي المجال الذي خضع لدعاية إمامة بيت حميد الدين وتأثيراتها الاستقطابية أكثر من غيره، وبالتالي؛ فإن السيطرة على هذا المجال هو ما يقرر مصير الصراع على السلطة في اليمن بحدوده في ذلك الوقت.
وحتى لو ذهبنا إلى زمن أبعد، فـ يافع (الشافعية) التي تمردت على الدولة القاسمية (الزيدية) في القرن السابع عشر هي نفسها يافع التي تمردت قبل ذلك على الوالي العثماني (السنِّي) سنان باشا.
وهكذا، لا ينبغي التعويل إطلاقاً على مقولة "الحاضنة"، فهي مقولة من صنع خيال المثقفين. لقد كان صندوق الذخيرة هو الحاضنة لا غير.
نقول هذا لأن هناك اليوم ما يستوجب الكفاح بالفكر لاستبعاد مفهوم "الزيدية الجغرافية"، وحتى "الشافعية الجغرافية"، من البنية الذهنية المهيمنة على المشهد السياسي والاجتماعي في اليمن، أكان ذلك عند النخبة أم عند العوام.
أي أن نكافح لإلغاء الاستعمال الجغرافي لأسماء المذاهب الدينية في الكتابة التاريخية وفي الخطاب السياسي، الاستعمال الصريح أو المقنَّع.
أتدرون لماذا؟
لأن هذا الإلغاء، وهذا الاستبعاد، هو الشرط الذي بدونه نفقد أهم الأسس الموضوعية التي بموجبها يمكن أن نتحدث أو نأمل في بقاء اليمن كياناً موحَّداً. فصنعاء مثلاً، بدون هذا الشرط، ستدخل مباشرة ضمن التصنيف الجغرافي الزيدي، وهذا يجرِّدها من صفتها العمومية السامية كعاصمة ومركز للدولة اليمنية.. وهذا التصنيف يعطي الحوثي، باعتباره حامل لواء الزيدية، أولوية التحدث باسم صنعاء والمنطقة العليا على حساب كلّ الآخرين.
ولن يستطيع أولئك الأشخاص الموجودين في ضفة "الشرعية" والتحالف، والمصنفين كزيود جغرافياً، رغم أنهم متسنِّنين، منازعة الحوثي على زيدية لا يؤمنون بها، بقدر ما هي وصمة مناطقية تُلْصق بهم في سياق الذم أو التحريض. فضلاً عن أن الزيدية في صميمها لا تعطي الحق أبداً في التحدث باسمها إلا لإمام علوي فاطمي، وهذا البند ينطبق على الحوثي.
لهذا السبب نكرِّر القول دائماً أنه ليس زيدياً بالمعنى الديني إلا من يتمذهب بجوارحه بالمذهب الزيدي، لا من ينتمي بالولادة إلى منطقة ما. ولم يكن هناك -ولن يكون- ما يمنع التمذهب الفردي بأي مذهب في اليمن الجمهوري، وخصوصاً المنطقة الشمالية العليا. ولهذا السبب أيضاً نكرِّر القول أنه ليس زيدياً بالمعنى السياسي والعسكري إلا من يمارس السياسة والتنظيم والقتال، قيادةً أو ولاءً، بمفردات ورموز ومرجعيات زيدية إمامية، ومن يفعل هذا يجب أن يتحمل وحده اليوم مسؤولية وعواقب النظر إليه كزيدي، وأن يتحمَّل مسؤولية معارضته ورفضه، أو تأييده ودعمه، على هذا الأساس.