القلق: كيف يؤثر على قدراتنا الإبداعية دون أن نشعر؟
الخميس 17 يونيو 2021 الساعة 19:36
يمن ميديا- متابعات:
 

تتحدث إليزابيث غيلبيرت في عملها غير الروائي بعنوان "بيغ ماجيك" عن قائمة من المخاوف التي يمكن أن تحد من العملية الإبداعية لدى المرء.

وتقول: "أنت تخشى من أن تكون بلا موهبة. وتخشى رفضك أو انتقادك أو السخرية منك أو إساءة فهمك أو تجاهلك، وهو الأسوأ من ذلك كله. أنت تخشى عدم الإقبال على إبداعك أو عدم اهتمام أحد به، وبالتالي لا جدوى من متابعته".

وتضيف الكاتبة: "أنت تخشى من أن يكون شخص آخر قد فعل الشيء الذي أبدعته بطريقة أفضل. أنت تخشى من أن يكون مستوى إبداعك في هذا الأمر أقل من مستوى إبداع بقية الناس. أنت تخشى من أن يسرق أحد أفكارك، لذا من الأسلم أن تبقي (إبداعك) مخفيا إلى الأبد في الظلام".

وتسرد غيلبرت، وهي كاتبة أمريكية كتبت أيضا كتابا بعنوان "تناول الطعام، مارس الصلاة، مارس الحب" كان من بين أكثر الكتب مبيعا، قائمة من 21 سببا آخر من الأسباب التي من شأنها أن تجعل الخوف يحرف مسار إلهامنا ويشتته.

  وتختتم سردها لهذه الأسباب قائلة: "الخوف ساحة قاحلة تجف فيها أحلامنا في لهيب الشمس الحارقة".

قد تكون هذه المشاعر وما قد تسببه للعقل من شلل مألوفة لدى أي شخص حدث أن طرح فيما مضى أفكاره في مجموعة للعصف الذهني. لكن العلماء بدأوا في غضون السنوات الماضية فقط قياس القلق بدافع الإبداع والدور الذي قد يلعبه في الحد من جودة أفكارنا.

والأهم من ذلك هو أنك لا تحتاج إلى أن تكون فنانا محترفا كي تتعلم من النتائج التي توصل العلماء إليها من دراساتهم للقلق بدافع الإبداع. فهناك أساليب يمكن لأي شخص، في أي مكان عمل تقريبا، أن يستخدمها لإدارة وتقليل قلقه بدافع الإبداع، مما قد يطلق العنان لتفكير أكثر أصالة وابتكارا.

ميزان القلق بدافع الإبداع

يعود مفهوم القلق بدافع الإبداع إلى مختبر "إيان ليونز" في جامعة شيكاغو، الذي ركز على خوف الناس من الأرقام. ومن المقبول تماما، على سبيل السرد على الأقل، أن العديد من الناس يجدون الرياضيات مرهقة بشكل خاص، مقارنة بالمواضيع الأكاديمية الأخرى.

وقاد ذلك إلى ما يعرف بـ "مقياس قلق الرياضيات"، الذي أتاح لعلماء النفس، مثل ليونز، الكشف عن أسباب وعواقب تلك المخاوف.

وبينما يمكنك أن تتوقع أن القلق من الرياضيات ينشأ من انخفاض القدرة الذهنية، على سبيل المثال، إلا أن التأثير يمكن أن يعمل في الاتجاه الآخر: حيث يعمل القلق المتزايد على التقليل من الأداء ويثبط الناس عن اتخاذ خطوات يمكن أن تحسن أداءهم.

وقد يساعد ذلك في تفسير الفجوة بين الجنسين في مواضيع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، فبسبب الصورة النمطية السائدة بين الجنسين القائلة إن أدمغة النساء أقل ملاءمة للأرقام والتفكير التحليلي، فإن الفتيات أكثر عرضة للمعاناة من قلق الرياضيات من الفتيان، ليصبح الأمر كما لو كنا تنبأنا بشيء ما ثم تحقق من خلال تصرفات قمنا بها بأنفسنا.

كان ريتشارد داكر، وهو طالب دراسات عليا يشرف عليه إيان ليونز، هو من بدأ يتساءل عما إذا كانت المخاوف بشأن العملية الإبداعية يمكن أن تكون لها نفس أهمية قدرة الناس على التفكير بطريقة أصيلة ومبتكرة.

وصمم داكر في البداية، من خلال العمل مع ليونز والباحث في مجال الإبداع آدم غرين، مقياسا نفسيا طلب فيه من المشاركين تقييم إلى أي مدى ستجعلهم المواقف المختلفة يشعرون بالقلق، من صفر الذي يرمز إلى الإجابة: (لا على الإطلاق)، إلى رقم 4 الذي يرمز إلى الإجابة: (كثيراً).

وشمل المقياس:

الحاجة إلى التوصل إلى حل مبتكر لمشكلة ما. الحاجة إلى التوصل إلى طريقة فريدة من نوعها للقيام بشيء. الحاجة إلى التفكير في شيء من منظور جديد. الحاجة إلى الارتجال.

وعلى سبيل المقارنة، كان على المشاركين أيضا تقييم القلق الناجم عن حالات مماثلة لا تعكس التفكير الإبداعي، مثل:

الحاجة إلى حل مشكلة ما تماما بنفس الطريقة التي تعلمتها للقيام بذلك. الحاجة إلى أن تتبع بدقة طريقة محددة للقيام بشيء ما. الحاجة إلى التفكير في شيء ما وفقا لنظام ثابت. الحاجة إلى اتباع التعليمات بعناية.

بالتأكيد، خلص داكر إلى أن مخاوف الناس بشأن المهام التي تتطلب التفكير الأصيل والارتجال (تلك الموجودة في الجزء الأول أعلاه) تميل إلى الارتباط مع بعضها البعض. (لذا، إذا وجد شخص ما الارتجال مرهقا، فمن المرجح أيضا أن يشعر بالقلق إزاء الاضطرار إلى التفكير من منظور جديد أو البحث عن طريقة أصيلة لحل مشكلة ما).

بيد أن الأهم من ذلك هو أن هذه التقييمات لم تكن مرتبطة للغاية بتقييمات المشاركين في المهام الأخرى الأكثر منهجية. وهذا يشير إلى أن قلق الإبداع هو كيان منفصل ناجم عن حالات محددة، وليس انعكاس لمستويات توتر الناس بشكل عام.

وأشارت تقييمات المشاركين المتعلقة بالقلق بدافع الإبداع إلى بعض النتائج الحياتية. فبشكل عام، كان يقل احتمال أن يحقق الأشخاص الذين يعانون من قلق كبير بدافع الإبداع إنجازات ذات أهمية في مجالات مثل الفن البصري أو الموسيقى أو الكتابة أو الدراما أو فن الطهي.

ويقول داكر: "حتى مع استبعاد تأثير أشكال أخرى من القلق، كان القلق بدافع الإبداع تنبؤياً بالإنجازات الإبداعية للناس في عالم الواقع".

وفي بحث غير منشور حاليا، أجرى داكر أيضا تجارب مخبرية للكشف عما إذا كان يمكن للمقياس أن يتنبأ بإمكانات الناس الإبداعية.

وأعطي المشاركون على سبيل المثال "مهمة الاستخدامات البديلة"، التي طلب منهم فيها سرد طرق فطرية لاستخدام شيء بسيط مثل قالب من الحجر أو الطوب.

وقال: "نجد أن القلق بدافع الإبداع يتنبأ بعدد الأفكار الفريدة التي يأتي بها الناس ومدى أصالة تلك الأفكار على حد سواء"، ويضيف أنها إشارة أولية إلى كونها تؤثر على أداء الناس "اللحظي الذي يتم دون تحضير مسبق"، بالإضافة إلى إنجازاتهم الإبداعية الواسعة".

عدم تحمل حالة عدم اليقين

نُشرت أول دراسة أجراها داكر عن القلق بدافع الإبداع في عام 2020، وأذكى هذا المفهوم اهتماما لدى علماء آخرين، من بينهم روس أندرسون، وهو باحث أول في شركة "إنفليكسيون" للاستشارات التعليمية، والذي استخدم مؤخرا المقياس لدراسة استجابات المعلمين للوباء.

قد لا يعتقد الكثيرون، بمن فيهم المعلمون أنفسهم، أن التدريس عملية إبداعية بطبيعتها، لكن أندرسون يشير إلى أنه يتعين على المعلمين أن يفكروا بمرونة وأن يرتجلوا كل دقيقة تقريبا خلال اليوم، وأن خطط الدروس الخاصة بهم قد تكون ابتكارية للغاية.

إن التحديات التي نتجت بسبب تفشي الوباء، بما في ذلك الانتقال السريع إلى التعلم عن بعد، كان من شأنها اختبار تلك القدرات إلى أقصى حد.

وفي معرض دراسته للمعلمين أثناء إغلاق المدارس في ربيع عام 2020، وجد أن القلق بدافع الإبداع توقع باستمرار مقاييس أخرى لرفاهية المعلمين.

وبشكل عام، يُصاب المعلمون الذين يعانون من قلق كبير بدافع الإبداع بتوتر زائد خلال هذه الفترة من عدم اليقين، على سبيل المثال، وهم يكدون في البحث عن طرق جديدة ومبتكرة للحفاظ على مشاركة الطلاب وتفاعلهم.

ولعل الأهم من ذلك، أن بحث أندرسون يؤكد حقيقة أن القلق بدافع الإبداع قد يكون عاملا مقيدا في العديد من أنواع أماكن العمل المختلفة، إلى جانب الفنون التقليدية، مما يجعل من المهم للغاية إيجاد طرق لتخفيف تلك المشاعر.

 

العلاج بالمواجهة

قد تأتي بعض الأفكار للعلاجات المحتملة من البحوث السابقة التي أجريت على قلق الرياضيات.

ويشير داكر إلى دراسات إعادة التقييم المعرفي، على سبيل المثال، والتي يحاول الناس فيها إعادة التفكير في الشعور بالإثارة الجسدية المرتبطة بالخوف أو القلق، مثل القلب متسارع الدقات وعرق كف اليد، كمصدر للطاقة أو حتى الإثارة.

ويقول: "الهدف هو جعل القلق مفيدا بالنسبة لك". ففي تجارب متنوعة، يبدو أن هذا يحسن الأداء في المهام العددية.

خلصت أبحاث أخرى إلى أن "الكتابة التعبيرية"، التي تقضي فيها بضع دقائق وأنت تصف مشاعرك بالتفصيل، يمكن أن تهدئ تلك الأعصاب وتزيد من قدرات الناس في الرياضيات، ومن الممكن أن تكون نفس هذه الاستراتيجية وسيلة مساعدة على الإبداع.

كما قد يكون من المفيد ممارسة التفكير الإبداعي في بيئة منخفضة المخاطر، كما يقترح داكر قائلا: "إذا مكنت الناس من ممارسة الإبداع مع مرور الوقت، وزدت من شعورهم بالارتياح مع تلك العملية، فمن المرجح أن ينخفض القلق بدافع الإبداع نفسه".

وقد شاهد أندرسون بالفعل بعض العلامات على إمكان خفض مستوى القلق بدافع الإبداع.

ففي دراسة تخضع حاليا لمراجعة باحثين آخرين في هذا المجال، قام بدراسة دورة مدتها 14 ساعة لتثقيف المعلمين حول إمكاناتهم في استخدام الإبداع داخل وظائفهم، إلى جانب التدريبات العملية.

فوجد أن القلق بدافع الإبداع لدى المعلمين قد انخفض بشكل كبير، وبمجرد أن تعلموا أن إبداعهم مرن ويمكن أن يتحسن مع الممارسة، بدت الحاجة إلى التفكير في الأصل أقل رهبة.

هذه ليست سوى بعض الاقتراحات، ويقول ليونز: "من المحتمل أن تكون هناك تدابير محتملة متعددة". وبالنظر إلى أبحاثه بشأن قلق الرياضيات، سيكون من المهم تكييف الاستراتيجيات حسب الشخص.

وتقول غيلبرت في كتاب "بيغ ماجيك" إن الحياة الإبداعية "هي طريق الشجعان". ولكن إذا تعلمنا التعايش مع مشاعر الخوف تلك، فقد نفاجأ بما يمكننا تحقيقه فعلا.

 

* ديفيد روبسون - نقلا عن (بي بي سي).

إقرأ أيضاً