إقدام الإدارة الأمريكية على قرار تهويد مدينة القدس
ترامب ونقل السفارة: دوافع وواقع وعلاقات تغير المشهد العالمي أم توافق في الرغبات
الاثنين 29 يناير 2018 الساعة 11:56
مجلة اتجاهات سياسية احدى اصدارات المركز الديمقراطي العربي – ألمانيا – برلين
يخطئ من يظن أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الصهيوني من تل أبيب إلى القدس لم يكن قراراً مدروساً على كل المستويات سواء داخل الإدارة “الترامبية” أو مؤسسات صنع القرار الخارجي في واشنطون، أو حتى الدول الصديقة والحليفة لأمريكا!
وعلى الرغم من تفاجؤ المواطن العربي والإسلامي بالقرار، إلاّ أن واقع المسألة يختلف عند ساسة العرب وحكامهم، الذين تؤكد الشواهد.. أنه تم مناقشتهم في الأمر قبل إعلانه أو على الأقل تم تسريب المعلومة بصورة أو بأخرى لإعطائهم مهلة لحساب ردود الأفعال وتقييمها.
إلا أن عملية الصهر التي تتم داخل المنطقة العربية تتيح، وللأسف، تحطيم الثواب، وتكسير المسلمات. فالواقع يؤكد وبإلحاح مناسبة الإجراء شكلياً، حتى لو لم يتم تفعيليه على أرض الواقع، على الأقل في القريب العاجل، بمعني أن تفسيرات الإدارة الأمريكية ألمحت إلى أن تنفيذ القرار قد يستغرق سنتين أو ثلاث سنوات، وطبعاً لا عزاء للقضية الفلسطينية ولا للشعوب المغلوبة … ولكن ما هي دوافع الأطراف المعنية بالمسألة لتمرير هذا القرار؟ وما هي تداعياته على شكل المنطقة العربية، وتأثيره القريب والبعيد على المسألة الفلسطينية؟
ترامب والمأزق الداخلي:
لا يجب أن ننسي أن ترامب يفكر بعقلية “التاجر” قبل أن يكون سياسياً، ومن ثم فهو يهتم بإظهار نفسه بالمصداقية “سمعة التاجر” قبل “حنكة السياسي” المزين لأفعاله. ترامب الذي لم يستطع أن يمرر تعديلاته على قانون “أوباما كير”، ولا وعوده بوقف المهاجرين واللاجئين، ترامب الذي يتهم بإقامة علاقات سرية مع “الروس” العدول الأول للشعب الأمريكي “الحر”، ساعدته في الفوز بالانتخابات، وترك لها المجال للتوسع في العالم، ترامب الذي يهدد بالتخلي “الاقتصادي” عن دعم حلفاءه القدماء “حلف الناتو”، ترامب الذي يُستنزف جزء كبير من تفكيره في غزواته “التويترية” وصد هجمات مؤسسات إعلامية كبري تستغل كل شاردة وواردة في إظهاره مظهر “الفتي الأخرق”، لم يجد حليفاً لديه سوي لوبيين قويين أولهما أصدقائه من “تجار السلاح”، وثانيهما “اللوبي الصهيوني”، أضف إلي ذلك التقارب الفكري لدي الطبقة الوسطي من البيض الأمريكان البروتوستانت، الداعم الأول لفوز ترامب، مع المعتقدات اليهودية في مسالة أرض الميعاد وعدوة “المخلص” ليحكم العالم 1000 عام يسود خلالها السلام. كل تلك الأسباب تجعل من ترامب راغباً في اتخاذ القرار بتطبيق قانون صادر من الكونجرس منذ 23عام، وتم تأجيله 43 مرة من قبل رؤساء جمهوريين وديمقراطيين على السواء، أضف إلى ذلك تواجد اللوبي اليهودي ذاته داخل إدارته وتكليفه لزوج ابنته اليهودي بملف الشرق الأوسط.
الكيان الصهيوني والهزائم الدولية:
ظل الكيان الصهيوني ينعم بعشرية من الأمان الدبلوماسي بعد الانقسام الداخلي الفلسطيني، القتال بين فتح وحماس، ما وجد فيه مصوغاً دبلوماسياً لادعاء عدم وجود طرف مجمع عليه من الفلسطينيين جدير بالجلوس على طاولة المفاوضات.
قبل ذلك وبعد انتزاع اعتراف الدولي “الضمني” بالقضية الفلسطينية، لم تجد سوى سياسة الاغتيالات وتصفية القادة الفلسطينيين لوقف عملية النزيف الدبلوماسي فلجأت إلي قتل عرفات وياسين وحاولت قتل مشغل وغيرهم الكثير، فكانت السياسة الصهيونية “اقتلوا كل العقلاء” .. وبالفعل مات العقلاء ونجحت إسرائيل في إحداث الانقسام الفلسطيني والذي استمر لعشر سنوات، استطاعت إسرائيل خلالها تغيير الصورة العالمية عن القضية الفلسطينية وإظهار الفلسطينيين كمجموعات متناحرة غير جديرة بالجلوس مع “الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” للتفاوض حلو حل الدولتين، وسعت بكل جهدها إلى تغيير الطبيعة الديمغرافية والتوسع في بناء المستوطنات وطمس كل معالم الخرائط التي تضمنتها اتفاقية الحكم الذاتي.
هذا هو الكيان الصهيوني خلال عشر سنوات، توقف به الزمن في محطات استطاع الفلسطينيين تغيير جزئي بظروف اللعبة، فتم اقتناص معقد “دولة مراقب” داخل الأمم المتحدة، والانضمام لمحكمة العدل الدولية ومنظمة اليونيسكو، وإصدار قرار بتوثيق المواقع الإسلامية بالقدس، وكما ساهمت “المخابرات المصرية” بإرادة سياسية حقيقية في الجمع بين الطرفيين الفلسطينيين علي مائدة التفاوض والوصول إلي اتفاق “تفصيلي” حول إعادة اللحمة للفلسطينين، وإعلان تخلي حماس عن دعم إيران وقطر لها وتحررها من تأثيرهما، كل ذلك أضعف الموقف الصهيوني مما جعلها في حاجة ماسة إلي خطوة عملية لتحكم سيطرتها علي الأرض خاصة وأن البساط بات مهدداً بالسحب منها.
أدي التباين بين الموقف الأمريكي وبعض المواقف الدولية وخاصة الأوروبية تجاه تصورات التسوية النهائية للوضع في فلسطين المحتلة، واختلاف وجهات النظر بين حل الدولة الواحدة وحلة الدولتين، إلى مزيد من القلق لدي الكيان الصهيوني نتيجة تطورات الوضع، ما يستوجب اتخاذ مزيد من الإجراءات لتثبيت الوضع القائم، إن لم يكن زيادة المكاسب وتعزيز المواقف.
العربية منشغلون:
أنهك “الربيع العربي” وما تبعه من إرهاصات الدول العربية الفاعلة، سواء الدول التي ذاقت “رحيقه” أو الدول التي تحملت تبعاته، وفتح جبهات صراع داخلية قادت إلى تغيير موازين القوي، وأتاحت الفرصة للطموح الفارسي للعب دور أكبر بل وتفتيت دول وإبادة أخري.
لم تستطيع الدول العربية خلال الفترة الماضية أن تتوحد حول موقف داخلي متماسك فضلاً أن تكون جبهة داعمة لقضية الفلسطينية، فانقسمت بين محور السعودية الإمارات الرافض لتبعات “الربيع العربي” ومحور “قطر إيران تركيا” المؤيد والداعم له. فضلا عن اختفاء التأثير المصري والعراقي والسوري كفاعليين لهم تاريخهم ومكانتهم في تفاعلات السياسات العربي وقيادة مسارات القضية الفلسطينية.
كما لعب تغير الدور الأمريكي في المنطقة، والذي تبلور بعد الاتفاق النووي الإيراني 5+1، متأثراً برغبة أمريكية قوية في التنازل عن جزء كبير من دورها في المنطقة واتجاهها شرقاً نحو البحر الأصفر، ما توافق مع رغبة إيرانية في زيادة نفوذها في المنطقة، فكان له أثر في مزيد من الأزمات في المنطقة، وهو ما قوبل بمحاولات تجميع الشتات العربي، والذي تشكل في النهاية في “التحالف العربي لمواجهة الإرهاب”، إلا أن سرعان ما أُضعف هذا التحالف بتغير الموقف القطري وانحرافها عن الإجماع الخليجي.
إلا أن المكاسب التي حققتها إيران وحلفائها في المنطقة ووقوع العراق وسوريا في قبضتها، واقتسامها النفوذ في اليمن، جعل الموقف العربي في مجمله يخضع لمراجعة في سلم الأولويات. حيث تصدر الخطر الإيراني المشهد وتراجعت المشكلة الفلسطينية خطورة إلى الوراء.
الحرب على الإرهاب:
ظهرت داعش وأقامت “دويلة” وامتلكت قوة مفاجئة أظهرتها، وسواء دعمتها دول أو الجهات خارجية أم داخلية، تبقي الحقيقة الواحدة أنها أربكة المنطقة، وزادت من مشكلاتها، وأضعفت المحور السني في المنطقة لصالح المحور الشيعي، وكانت سبباً في إحياء التواجد الروسي للمنطقة، بعد انتهاؤه بنهاية ثمانينيات القرن الماضي، زادت من حدة الاحتقان الشيعي السني، وأعادت رسم خريطة التوزيع السكاني داخل كل من العراق وسوريا. وفى إطار إعادة ترتيب أولويات المنطقة، وإعادة تشكيل التحالفات، ما سمح بتوسيع دائرة العلاقات وإدخال حلفاء جدد نتيجة تبدل المواقف.
الخريطة الجديدة:
كل هذه التفاعلات والدوافع وتبدل المواقف ورغبة الأطراف في حشد جبهات أكثر قوي في مواجهة التكتلات والمحاور المهددة للأمن العربي جعلت من الموقف العربي في حاجة إلي أن يتقارب، لو مرحليا، مع الكيان الصهيوني في مواجهة خطري إيران والإرهاب، وخاصة أن موقف القوتين العظميين “أمريكا وروسيا” غير متوافق مع مطالب الأمن العربي، فتخاذل أمريكا في محاربة داعش وتغاضيها عن التمدد الإيراني في المنطقة، وانتهازية الجانب الروسي للأوضاع ليعزز تواجده في المياه المتوسطية، ويوسع من قواعده في سوريا، وطمعه في إنشاء قواعد جديدة في مصر أو ليبيا، جعل الموقف العربي حاجة إلى تنسيقات وتفهما مع الكيان الصهيوني.
ومن منطلق أن اليهود ليسوا بالعدو النزيه ولا الحليف الشريف، فقد سارعوا لاستغلال الفرصة وتحقيق مكاسب على حساب أزمة ترامب الداخلية وانهيار الأمن في المنطقة العربي، ورغبة منها بعد أن فشلت في تقويض المصالحة الفلسطينية الداخلية، فاعتبرت أن نقل السفارة الأمريكية سيجعلها تخرج القدس من أي مفاوضات للحل النهائي، وهو ما لن يستطيع أي مفاوض فلسطيني أن يقدمه.
تغيير قواعد اللعبة:
من الأكيد أن الكرة الأن في الملعب الشعب الفلسطيني، فهو يملك الشرعية والسند القانوني، وخاصة بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة “الاتحاد من أجل السلم”، وإن كان في الأصل هو توصية إلا أنه لا تنتفي عنه صفة الإلزام بالكلية، كما أن التأييد الدولي الذي شهده صدور القرار، سواء التصويت داخل مجلس الأمن على مشروع القرار الذي تقدمت به مصر واستخدمت أمريكيا ضده حق الفيتو، أو قرار الجمعية العامة بأغلية 129 صوت، كل ذلك يوجب علي الفلسطينيين اتخاذ خطوات جادة وحاسمة وجريئة لتحقيق التسوية.
وكان موقف حماس غاية في النضح بعدم تصعيدها للأعمال العسكرية ضد الكيان الصهيوني، والذي كان سيعطي مصوغاً لشرعنة الأعمال الصهيونية، كما كان إعلان الرئيس محمود عباس بإنهاء دور الوساطة الأمريكية خطوة جيدة لإعادة تنسيق مسار الحل.
معضلة و حلول:
تظل معضلة انحياز أمريكا الشديد لإسرائيل، وكونها هي القوة الوحيدة القادرة على الضغط على الكيان الصهيوني لتوقيع اتفاقية، وفي ظل غياب قرار الحسم العسكري، ما يستدعي أن نغير من أنفسنا ومن استراتيجيتنا، فعل القادة الفلسطينيين سرعة إتمام المصالحة وتوحيد الجبهة الداخلية، ثم وضع إطار للمقاومة يقوم علي جناحي عملية التحرر باستخدام تكتيكات التفاوض وخطط النضال المسلح معاً، دون التخلي عن أي منهما.
حل دولتين ليس حلاً عادلاً ولكنه حلاً معقولاً، في ظل غياب خيار الحسم كما أشرنا، وحل الدولة الواحدة لن يقبل به الكيان الصهيوني في ظل عنصريتها اليهودية، وما اشترطه الرئيس الفلسطيني محمود عباس من المساواة التامة في المواطنة “one man one vote”، لذا يجب أن يستمر النضال في الاتجاه الضاغط لوضع تسوية.
ورغم الوضع العربي البالغ السوء إلا أنه يجب على الدول العربي أن تدعم وبكل جهد، فإن هذا الدعم لا يمثل جانب قوة للقضية الفلسطينية فقط، بل للقضايا العربية الأخرى ذات العلاقات المتشابكة مع أمريكا والكيان الصهيوني.
ففي المسار السلمي علي الفلسطينيين الذهاب إلى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية بما يوثق الانتهاكات الصهيونية ويدعم زيادة التضامن العالمي مع القضية.
وفي المسار النضال الشعبي والمجتمعي، المنظمات العربية يجب أن تلعب دوراً في حشد الجبهات الداخلية وتقديم العون المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني في طريقه النضالي من أجل التحرر واستعادة الأرض والمقدسات.
إلا أن البداية لابد أن تأتى من الساحة الفلسطينية، وتاريخ النضال التحرري يؤكد أن الغلبة دائما لأصحاب الحق والأرض، وما الجزائر ولا جنوب إفريقيا منا ببعيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعداد: تامر نادي – صحفي وباحث سياسي – المركز الديمقراطي العربي
إقرأ أيضاً