أعيادهم مختلفة عن أعيادنا، مناسباتهم لا تُشبه مناسباتنا، مجالسهم خاصة بهم ومجالسنا عامرة باليمنيين من كل مكان، لغتهم مستوحاة من كتب صفراء بالية، ولغتنا تفيض بتعابير الزمن الحديث، نتحدث عن المواطنة، ويتحدثون عن الولاية.
نُشهر أمامهم مصطلح "العقد الإجتماعي" هل تعرفون، جاك روسو وجون لوك، حسناً، لا مشكلة، ماذا عن "وثيقة المدينة"، كيف تفهمونها..؟ لا يكادون يفقهون من هذه اللغة شيئاً، ويصرخون أمامنا مرّة ثانية: نحن مشغولون بعيد "الولاية"، ذكرى مقتل الإمام زيد، يوم الغدير.. وكل تلك الأحداث الهامشية، مما لا تحمل دلالة وطنية واحدة ولا يمكن أن توفِّر أي أساس مشترك بيننا وبينهم.
ليست مشكلتنا معهم في مصادر ثقافتهم الطائفية الخاصة؛ بل في عجزهم عن تحديث ذاكرتهم، الخروج من عباءة الطائفة قليلًا وتأهيل أنفسهم للانتماء الوطني العام. ليس الوطن عدواً للطائفة بما هي مكوّن اجتماعي وثقافي، لكن الوطنية نقيضة للطائفية. لم تكن ثورة سبتمبر حدثاً مناهضاً لعِرق أو مذهب أو حتى طائفة؛ لكنها كانت ثورة ضد الحكم الطائفي.
أزاحت ثورة سبتمبر السلالة؛ كي تفرش رداء الوطنية، وتدعو الجميع إلى الاستظلال بها، دخل اليمنيون جميعاً تحت علم الجمهورية، ورددوا نشيدها، وبقت السلالة مختنقة، "بحديث الولاية"، وشعار الطائفة.
يمكنك تقليب ذاكرة الجمهورية بكل تفاصيلها، لن تجد مفردة واحدة تقصي فرداً من أبناء البلد أو تحوي دلالة استعلائية، عرقية، سلالية، احتكاراً لحق أو ادعاءً بالتميّز في أي شيء؛ لكنك ستخرج وأنت تشعر بالرُّعب إذا ما ساقتك الأقدار لتصفّح تاريخ الإمامة قديماً وحديثاً، أو متابعة خطاباتهم ومواقعهم، قنواتهم وصحفهم وكل مناسباتهم، بالأمس واليوم.
لا تكاد تجد مساحة لمواطن، سوى أحفاد السلالة، وينتهي حدود الوطن والمواطنة هناك.
يعجز الإماميون عن تعريف أنفسهم داخل الإطار العام لثورة سبتمبر، وتلك خطيئتهم الأزلية بالطبع، وليست مشكلة سبتمبر، لم يجدوا أنفسهم في فضاء الجمهورية، ليس لأنها لا تتسع لهم؛ بل لأنهم يضيقون بها، لا يرونها، لا يرون ذواتهم فيها؛ لكونهم لا يؤمنون بها ولا يوجد في ذاكرتهم ما يوصلهم بالجمهورية، وكل دلالاتها الواسعة، وما تفيض به من معاني الزمن السياسي الحديث.
هذه فكرة مركزية: لم تكن 26 سبتمبر ثأراً من سلالة بعينها، بل كانت حلاً لميراث مرهق من تاريخ السلالية، جاءت الجمهورية، كفكرة جامعة، تنهي زمناً من الحكم العصبوي، وتؤسس لدولة يمنية حديثة، قادرة على احتواء الجميع؛ لكن السلالة ظلت مختنقة بذاتها، ورافضة أن تنصهر داخل اليمن الكبير.
لا تتضمّن الفكرة السلالية أي قدرة نظرية على حل مسألة السلطة والحكم، وبشكل متناغم مع القِيم المدنية الحديثة، هي فكرة دِينية مفصّلة على مقاس جماعة صغيرة. وحين قامت ثورة سبتمبر، لم يتمكن الثوَّار من تقويض حكم الإمامة لأنهم أقوى منها، بل لأن الفكرة الإمامية كانت قد وصلت إلى حالة مهترئة، وكلما تقدّم الزمن يزداد ارتباكها وفشلها في إدارة حياة الناس.
ما يؤكد أن فكرة الجمهورية كانت حلاً لنا ولهم، لكنهم تمسكوا بعنادهم، وأصروا على إبقاء أنفسهم خارج الهوية اليمنية الجامعة، وما يزالون حتى اللحظة عاجزين عن الوقوف ومناغمة حياتهم مع مكتسبات الإنسان اليمني الحديث.
هناك فكرة مشاعة عن المذهب الزيدي، يقولون عنه إنه مذهب سياسي، استناداً إلى نظرية الولاية؛ لكن باعتقادي هذا التوصيف لئن كان صحيحا نسبياً فيما مضى، فهو لم يعد كذلك في الزمن الحالي. البُعد السياسي في المذهب الزيدي بات ميراثاً تقليدياً ونظرية غير قادرة على الإجابة عن أسئلة المجتمع والدولة بأبعادها المؤسسية وطابعها الوطني العام.
الباحث محمد المقبلي أشار، قبل أيام قليلة، إلى هذه المسألة بشكل خاطف، عجز الإماميون عن مراكمة مكاسب سياسية تتعلق بالبنية التحتية المؤسسية للحكم، وهي فكرة أساسية بحاجة إلى بحث موسّع لكشف هشاشة الفكرة السياسية التي يستند إليها الإماميون الجدد (الحوثيون)، مع التنويه أنهم لا يمثلون المذهب الزيدي بشكل حصري ودقيق، بل هم مختطفون للمذهب، كخطفهم للدولة ومصير الشعب عموماً.
أخيراً: يعيش الحوثيون تشظياً داخلياً في هُويتهم العامة، ولو لم يشعروا بذلك، يقدّمون أنفسهم كحركة إحيائية للمذهب الزيدي، لكنهم يواجهون واقعاً متجاوزاً رؤيتهم، يفتقدون للشجاعة والقدرة والذكاء المعرفي على تحقيق حالة انسجام مع الواقع، يخلصهم من تناقضاتهم الداخلية.
يحملون بطاقة الجمهورية اليمنية؛ لكنهم لا يستشعرون أي ولاء وجداني لها، تعجُّ فضاءاتهم بكل المعاني المضادة للجمهورية؛ لكنهم يصغون قسراً للنشيد الجمهوري في المدارس كل صباح.
يقضون عامهم كاملاً وهم يتنقلون في مناسبات طائفية لا يكترث لها أحد سواهم، وحين يأتي سبتمبر يصابون بالذهول والحيرة، وهم يرون اليمنيين يحتفلون بعيدهم الوطني المقدّس، ويتبادلون معاني الجمهورية ورموزها من أقصى البلاد وكل مداها؛ فيشعرون بالغربة والحيرة وكأن لا شيء يربطهم بهذا الشعب، وهذي البلاد.
غرباء كما دخلوا أول مرّة، فتحت لهم البلاد ذراعيها، كان اليمني شجاعاً وهو يعلن استعداده لاحتوائهم، واثقاً من صلابة ميراثه الحضاري، انفتاحه مع كل فكرة مختلفة، وقدرته على التمازج معها وترويضها لمنطق العقل المشترك، لكنهم أثبتوا خوفهم وعدوانيتهم، خوفهم من ذوبانهم داخل ثقافة عريقة، وعدوانيتهم ضدها، عدوانية تنطلق من ضعف داخلي، مهما كانت تجلياتها عنيفة، فهو عنف جماعة خائفة ولئيمة، غريب يشهر سلاحه في وجوه الجميع، لكونه يفتقد للأمان الداخلي والقدرة على التعاطي مع المحيط برسوخ وثِقة في حقه بالوجود.