كان دعاة الامامة الزيدية، يدركون من اليوم الأول لدخولهم اليمن، حجم التحديات التي ستواجههم، وتقوض من أركان حكمهم، وتدحض دعاويهم الباطلة.
ولقد أدرك الأئمة خطورة الوضع القبلي القائم على حكمهم، ولذا فقد وجهوا سياستهم نحو تفكيك القوى القبلية، وعزلها وإضعافها بما يمكنهم من فرض سيادتهم المطلقة على كل القبائل.
وقد سعى ألائمة إلى انتهاج العديد من الأساليب التي تضمن فرض سطوتهم عليها، عبر العديد من السياسات الموجهة، التي اعتمدت في أساسها سياسة الإغراء والتحفيز، لمناصرة مشروعهم السلالي عبر أدوات تجهيلية زائفة، تمكنوا من خلالها تقنين دور بعض هذه القبائل، ومحاولة استقطابها لصفوفهم، في سبيل نصرتها لهم الأمر الذي أسهم بدون وعي، في إضعافها، وتحويلها بعضها إلى قبائل مرتبكة الكينونة، أو على الأقل محايدة في صراع اليمنيين مع الإمامة.
فتحالفت الإمامية مع بعض زعماء القبائل القوية التي كانوا يخشونها، لم يكن تحالف الند للند، أو تحالفا قائما على الاحترام والمكانة، التي يفترض أن تحظى بها هذه القبائل، فكان نظام الرهائن والخطاط، وغيرها من السياسات الإمامية، جزءا لا يتجزأ من سياستها التي تستهدف إهانة القبائل ورموزها وتقنين العلاقة بينهم وبينها وفق مبدا السيد والمسود رغم ما بينهم من أحلاف.
وبعيدا عن الواقع الحربي الذي فرضه الوجود الإمامي على كل القبائل المعارضة لهم، وكل ما تسبب به من قتل وتنكيل وسبي، وتقسيم للبلد، نتطرق في موضوعنا هذا إلى الشكل الآخر من أشكال محاولات إخضاع الإمامة للقبائل الكبيرة والقوية، تحاشياً للاصطدام والمواجهة معها، وذلك عبر أساليب الكذب والتزوير، القائم على فكرة الإغراء بما يمكن أن تمنحه مسالة الانتساب إليهم من مكانة هم في غنى عنها أصلا، لأن هذه القبائل في الأساس هي أهل الشوكة والمكانة والشرف.
عمدت الإمامة لجعل مسألة الانتساب للبيت العلوي الهاشمي القرشي، مقام تشريف لكل من ينتسب له، ولعلها الخديعة الكبرى الذي حاول هؤلاء من خلالها سلب العديد من اليمنيين هويتهم التاريخية والسياسية العريقة.
ولما كانت قبيلة قيفة من أهم وأقوى القبائل اليمنية، بل والعربية عموما، أثارت خوف وطمع الأئمة فيها ومنها، فقد تحاشى الأئمة المواجهة معها، ووضعوا في سبيل ذلك العديد من الخطط والأساليب التي تحاول ضمها ضمن دائرة الولاء والمناصرة لهم، والاستفادة من موارد هذه القبيلة البشرية والقتالية، القوية لصالحهم، إضافة إلى موقعها الذي يتوسط اليمن ويشكل منطقة مهمة للربط بين شماله وجنوبه.
ولقد تمكن الأئمة من إحداث نوع من التلاعب بالتاريخ والهوية والمكانة الحقيقية لهذه القبيلة اليمنية الأصيلة والعريقة في جذورها التاريخية والاجتماعية لعصور ما قبل الإسلام.
وقد تولى الأستاذ والباحث جبر القيفي المذحجي اليعربي في أحد أبحاثه التي تولى من خلالها العناية بالكشف عن أدوات الكذب، والتدليس الامامية، فضح إحدى أشكال التدليس والتزوير التاريخي الذي تعرضت له قبيلة “قيفة” الأبية، من قبل الامامة والذي تطرق إلى إغرائها بانتسابها إلى البيت العلوي الهاشمي، والتأكيد على قرابة الدم بينهم، كونهم حسب زعمهم، ينتمون إلى البيت القرشي الهاشمي.
ولقد تعامل مروجو هذه الادعاءات بذكاء تجاه هذه القبيلة التي تم تزوير نسبتها إليهم، ولكنها نسبة ضمنت بقاء هذه القبيلة، خارج التطلعات السياسية في الحكم، كون النظرية الهادوية، تحصر الأحقية بادعاء الامامة، محصورا في “البطنين” أي أن يكون مدّعوها فقط، من أبناء الحسن والحسين، أبناء الإمام علي رضي الله عنه، في حين تم خط شجرة نسب مزورة لقبيلة “قيفة” ترجع نسبهم إلى “أبي لهب”، وهنا يكمن دهاء وإمعان الامامة، وسخفها أيضا في التعامل مع كل القبائل والبطون خارج النسب العلوي.
وقد اوجد الباحث “جبر القيفي” في بحثه هذا محل القراءة هذه، العديد من الدلائل والتحقيقات التي تفند من الادعاءات الامامية بهاشمية وقرشية قبيلة قيفة، وذلك وفق العديد من الأسباب التي حملت الامامة على ادعائهم هذا، وأيضا النظر في حقيقة هذا الادعاء، وفق العديد من المعطيات والدلالات التي تناولها الباحث، بأسلوب منهجي وعلمي، اثبت تزييفها ليضمنها في بحثه المعنون بـ”قبيلة قيفة مذحجية لا لهبية”، ليمثل هذا البحث دراسة كافية حول الأصول التاريخية والاجتماعية للقبيلة، ودورها وتأثيرها في العمق الاجتماعي اليمني، ساعيا إلى إثبات الهوية التاريخية لها بعيدا عن خزعبلات العنصرية السياسية والمذهبية لآل البيت.
وقد أورد الباحث جملة من الأسباب التي حملت دعاة الامامة الزيدية الهادوية، على محاولة استقطاب هذه القبيلة، والسعي لتطويعها وفق تطلعات الامامة التسلطية على اليمنيين، جاعلين من اختلاق قرشية وهاشمية قبيلة “قيفة”، حافزا لبعض أبنائها، لمد يد العون والنصرة لمشروعهم الطبقي، وفق شرف النسب للبيت الهاشمي الذي يمنحهم سيادة فوقية مجتزئة عما يمنحونه هم لأنفسهم، من الحق في الحكم، في حين يظل بقية الأدعياء بالنسب للبيت الهاشمي خارج نظرية البطنين، مجرد فئات وأشخاص مروجين ومدافعين، عنهم، بدون أن يحظوا بأي ميزة تنافسية، تمكنهم من التطلع للوصول إلى السلطة السياسية، مكتفين بما تكرم عليهم العلويون من منحهم حق التميز الاجتماعي عن بقية الأسر، والقبائل اليمنية/ الضاربة في العمق التاريخي والحضاري لأصحاب الأرض وأهلها.
ومن تلك الأسباب التي أوردها الباحث، التي جعلت قبيلة قيفة محط اهتمام الهادويين ما يلي:
أولا: عمق ومكانة موقعها وأهميته، حيث يرجع إلى “سرو مذحج”، في محافظة البيضاء، قلب اليمن،
حيث تنتشر قبيلة “قيفة”، في ثلاث مديريات هي الشريه، وفيها “قيفة السفلى”، وتتواجد “قيفة” في مديرية رداع والعرش، وقرى أخرى بمحافظة البيضاء، إضافة إلى تواجدها خارج محافظة البيضاء كـ” إب”، و”صنعاء”، ودول الخليج وغيرها.
ولقد كان لهذا الانتشار الكبير للقبيلة، ولأهمية المناطق التي سكنت فيها، اكبر الأثر في أن تكون محط اهتمام وجذب الامامة الهادوية لقبائلها وزعمائها وأبنائها.
ثانيا: كثرة عدد أفرادها واتسامهم بالقوة، والنصرة، والعديد من القيم القبلية والدينية التي شكلت عنصرا في محاولة الامامة تامين نفسها من أي صدام ومواجهة معها واتباع أساليب أخرى تجعلها من ضمن القبائل الموالية لهم.
ولعل أهم ما يلخص مهمة الأئمة الهادويين، في كسب قبيلة قيفة إلى ضمن البيت الهاشمي، أنها تهدف إلى تحويلهم إلى أتباع لهم، والضرب بهم أمام خصومهم العنيدين، من قبائل مراد مذحج، وتفريق جمعهم، كي يتمكنوا من ذلك الشق الذي أحدثوه في القبيلة الواحد والكبيرة من التفرغ للسيطرة على باقي القبائل والمناطق المعارضة لهم.
ولعل ما ينبغي التنويه اليه في هذا السياق، أن هذه السياسة الإمامية الخبيثة فشلت فشلا ذريعا في محاولة تحييد القبيلة، ورأينا كيف كانت قيفة في صدارة من واجهوا الزحف الحوثي في العام ٢٠١٤، وقدمت في سبيل ذلك ولا تزال تقدم، الآلاف من خيرة أبنائها سواء في نطاقها أو في كل مواقع الشرف والبطولة على امتداد رقعة الوطن.
ولقد ناقش الباحث مسألتين مهمتين حول بطلان ادعاءات نسبة قبائل قيفة إلى البيت اللهبي، في مبحثين تمثلا في الآتي:
البحث الأول: ثبوت نسب قيفة في مذحج.
المبحث الثاني: بطلان انتساب قيفة لأبي لهب.
وهما صلب موضوع الدراسة هذه، حيث أورد الباحث العديد من الدلائل التي تؤكد كون قبيلة قيفة قبيلة مذحجية عريقة، تعود إلى عصر ما قبل الإسلام، وقبل تكوّن حلف قريش في مكة، ومنها ورود ذكر هذه القبيلة في النقش الأثري بخط المسند، كما جاء ذكر قيفة في كتاب ابن الكلبي، المتوقي سنة 204هـ في كتابه “نسب معد واليمن الكبير” والذي يرجع فيه نسب قيفة والمصعبيين إلى مراد مذحج، فنسب قيفة راجع إلى مراد مذحج قبل أن تخلق قريش في مكة بقرون طويلة.
هذا بالإضافة إلى ما أكده العلامة الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” حيث أكد فيه مذحجية قيفة، إضافة إلى العديد من العلماء والمحققين الذي أكدوا ذلك كـ الاشعري، والاكوع والمقحفي وغيرهم.
وإذا احتملنا على سبيل المجاز افتراض صحة الادعاءات الهاشمية بلهبية قبيلة قيفة وقرشيتها، فان العديد من الدلائل والافتراضات ترفض قطعا هذه الاحتمالية التي تسلخ قبيلة قيفة من جذورها اليمنية الخالصة، أو كونها قبيلة أخرى غير تلك التي ذكرتها المصادر التاريخية والنقوش الأثرية، في محاولة فصل واضحة لها عن جذورها ومكانتها العريقة، واستحداث نسبة هذه القبيلة إلى البيت الهاشمي المزعوم، حيث لم تفد المصادر التاريخية حدوث أي تهديد وجودي تعرضت له القبيلة يمكن الاستدلال بزوالها وخروجها من مناطقها التي عرفت بها، ويفند أيضا من احتمالية أن تحل قبيلة أخرى، في نفس المساحة الجغرافية لانتشار القبيلة الأولى وتحمل نفس اسمها، فهذه مغالطة من ضمن المغالطات وحركة التزييف للوعي المجتمعي والقبلي.
وكيف تمكنت هذه القبيلة من إعادة انتشارها وتكاثر أعدادها والحفر بمكانتها الضاربة في المجتمع في فترة صغيرة تخالف فيها كل أشكال العقل والمنطق، بما لا يدع مجالا للشك في فحوى هذه الادعاء إلا بما يستوجب، محاولة أدعياء البيت الهاشمي العلوي من تفكيك عرى التلاحم والوثاق القبلي، وجذبه لصالح مشروعهم العنصري المتعالي، خدمة لأهدافهم ومشاريعهم باتجاه الحكم ومحاولة تدعيمه بدماء فتيه تقاتل لأجلهم.
اما عن الاستدلال بقرشية قبيلة قيفة، وأخذ هذه الصفة منطلقا لتشييعها، فذلك يخالف تماما ما سعى إليه الهادويون في إثبات هاشمية قيفة حيث أن قريش (خلاف قريش الحجاز)، كانت أحدى قبائل مراد، فقد ذكر ابن سعد في كتابه ” الطبقات الكبير” أن ذكر قريش فرع لمراد، وان قرشية مراد تعني مكان تجمع قبائلها، وهو ما أكدته أيضا بعض النقوش الأثرية من أن ذكر قريش مراد كان سابقا لقرون طويلة لظهور قريش مكة، وغيرها من الدلائل التي تفند هذا القول.
أما عن كذب الادعاءات الرسيّة بنسب قبيلة قيفة إلى البيت اللهبي فقد حقق الباحث حول هذا الادعاء القائم على أساس تفكيك القبيلة الواحدة “مذحج” وتسخيرها لمناصرتهم، كما تم الإيضاح سابقا، وذلك عبر الزعم بوجود مشجرات تثبت نسب قيفة لأبي لهب ومنها المشجر الوحيد لأبي “علامة الهاشمي” ودعوى وجود هذا النسب في هذا المشجر، كان من أهم الأسباب التي دفعت البعض من أبناء قبيلة قيفة الاقتناع بالنسب للبيت اللهبي وترك نسبهم المذحجي، كما أن وجود بعض الخلافات الداخلية بين أفراد قبيلة مراد شجع البعض منهم إلى الالتصاق بالنسب اللهبي من باب النكاية والاستقواء.
كما شكل دخول بعض الأسر المذحجية من خارج قيفة في الحلف مع قبائل قيفة المذحجية، عملا للفصل لدى البعض، بين قيفة المذحجية واعتبارها اقلية، أمام قيفة اللهبية، وهذا الأمر قلب للحقائق فجميع قبائل مذحج إخوة، والأكثر منهم ينتسبون إلى قيفة المرادية الأصلية.
ولعل من أكبر مسائل التزييف في الوعي الخاص بزيف لهبية قبيلة قيفة يرجع في الأصل إلى بطلان هذا الادعاء حتى من بين أهم العناصر التي سعت للتأكيد عليه، ومنها بطلان نسبة قيفة حسب ما قيل انه ثابت وفق مشجر “أبي علامة الهاشمي” المتوفي سنة 1044هـ، الموسوم بـ”روضة الألباب وتحفة الأحباب وبغية الطلاب ونخبة الاحساب بمعرفة الأنساب” حيث قام الباحث بالرجوع إلى ذات الكتاب المزعوم وجود مشجر يثبت نسبة قبيلة قيفة إلى ابي لهب وكان من ضمن استنتاجاته الهامة، عدم وجود أي ذكر لقيفة على الإطلاق في هذا المشجر، وإنما وجد فيه مشجرا خاصا بعبد المطلب وأولاده، ولم يتطرق إلى أي ذكر لقيفة أو أي انتساب لها فيه، وأن الترويج لهذا الادعاء كان محكوما إلى جهل الناس، وأخذهم للأخبار من غيرهم دون العناية والرجوع إلى التحري والتفحص الذي ينفي هذه الفكرة أو يثبتها.
ولعل السبب الذي دفع الإماميين إلى اختلاق مثل هذا النسب، والصاقه بقيفة دون أن يكون له أي مرتكز وأثر واقعي، يكمن في نفي صفة الانتساب لها إلى البيت الهاشمي، ودحض هذه الفرضية متى ما تنافست هذه القبيلة مع البيت العلوي الهاشمي في اليمن وإثبات عدم أحقيتهم في أمر الدعاوي الهاشمية والهادفة إلى تقسيم اليمنيين وحكمهم بقوة السلاح والجهل.
وقد دفع التزييف الإمامي حول قيفة أدعياء هذه الكذبة، إلى التخبط حولها، “حيث استدل بعضهـم بمـا جاء فـي جمهرة أنساب العرب لـ “بـن حـزم” مـن ذكـر نسـل أبـي لهـب وذكـر إبراهيـم بـن أبـي خـداش بـن عتبـة بـن أبـي لهـب، وذكـر القاسـم بـن العبـاس بـن معمـر بـن معتـب بـن أبـي لهـب وقـال المتلهبـون: إن قيفـة مـن نسـل ابـن أبـي خـداش، فلمـا أعيتهـم الحيلـة قالـوا: بـل مـن نسـل القاسـم بـن العبـاس. وهـو أمـر غريـب عجيـب متناقـض فابـن حـزم لـم يذكـر قيفـة لا تصريحـا ولا تلميحـا مـع وجودهـا فـي عصـره بـل قبـل عصـره بقـرون”.
ونكتفي بهذا العرض الذي حاولنا من خلاله للوقوف عند شكل من أشكال التزييف والتجريف للوعي والهوية التاريخية للقبائل اليمنية وإثباته بما لا يدع للشك، أن الدور التخريبي الذي حملته بذور ومعاول الهدم الأمامي، لليمنيين لم تقتصر على جانب محدد فقط، بل كانت عملية تقسيم ونهب وسلب وإخضاع وتزوير شاملة، ولنا في هذه القراءة من خلال هذا البحث المتميز الذي يكشف حقيقة الدعاوى الامامية تجاه قبيلة قيفة أكبر دليل على خطر هذه العصابة الخارجية على كافة المشاريع الوطنية والسيادية لنا كيمنيين على مر العصور، متمنية لكم قراءة ممتعة وناقدة لهذا البحث، نستوعب من خلالها خطر هذه الفئة علينا أرضا وإنسانا.
لتحميل كتاب قبيلة قيفة مذحجية لا لهبية اضغط هنــــــــــــــا