يوشك الحاضر بواقعيته السوداء أن يجعل الحياة أصعب من أن تطاق، لذلك تعالوا نهرب من هذا الحاضر ولو لدقائق معدودة لا تزيد على زمن قراءة هذه الزاوية. وهو هروب إلى الأحلام -أحلام اليقظة طبعاً- وكنت منذ أيام عثرت- وأنا أقلب في بعض من أوراقي القديمة- على مجموعة من الأحلام التي لو تحققت لكانت الأرض قد تحولت إلى جنة، والحياة إلى رحلة بديعة خالية من المنغّصات والآلام. وهنا نص تلك الأحلام المشار إليها ويعود تاريخ نشرها إلى عام 1993م. وكانت تحت عنوان «توقّعوا»:
إن عمر الإنسان سيصل إلى 150 سنة
إن الجيوش الدائمة ستختفي
إن الطب سيجعل السرطان مرضاً هيناً مثل الإنفلونزا
إن العالم لن يكون فيه أغنياء جداً وفقراء جداً
إن الأسعار ستنخفض بشدّه والضرائب تقترب من التلاشي
والجريمة في طريقها إلى الاختفاء
إن الناس سيكونون في ظل حكم الديمقراطية الشاعرية.
تلك هي الأحلام المشار إليها، وهي جزء من الأحلام الجميلة الكثيرة التي كان الهاربون من الواقع يلجؤون إليها في يقظتهم لتعطي لنفوسهم المنهارة بعض الأمل، أو كل الأمل، بمستقبل يختلف قليلاً، أو كثيراً عن الحاضر الكئيب الموحش. وملاحظتي على هذه الأحلام الجميلة أن صاحبها أخطأ في تجديد فترة تحققها بأقل وقت من الزمن وهو عام واحد، كما ابتدأ بالحديث عن إطالة العمر مع أن طول عمر الإنسان، أو قصره، ليس أمراً مهماً مثل أن يكون سعيداً، ومبْهجاً، فالأعمار تقاس بما تفيض به من إنجازات ومسرات وليس بما تتسع له من أيام. ومع ذلك تبقى صورة من الأحلام التي علينا أن نعيش فيها بعض الوقت وننسى من خلالها مرارة الواقع الذي يزداد بؤساً وكآبة ليس على المستوى الشخصي للأفراد فقط، بل على المستوى العام أيضاً.
وهنا أتذكر بتقدير تام تلك الأحلام التي عاشها مفكر عربي كبير في يقظته، فبعد أن صدمه بعنف، وزلزله بشدة قيام الكيان في الجزء الأكبر من فلسطين، لكن أحلام اليقظة ذهبت به بعيداً عن ذلك الحدث الفظيع إلى أن نشأته ستكون محفزّاً للعرب على الوحدة، وإلاَّ فإن بقاء الأقطار العربية مجزأة، ومفتتة، ستدفع بهذا الكيان إلى العدوان، وسيصل شره إلى كل قطر قريباً كان، أو بعيداً، وقد أثارت أحلام هذا المفكر الكبير سخرية بعض أصحاب العقول الصغيرة واعتبروها كابوساً للتخويف لا يليق بأن يصدر عن مفكر معروف، إلاَّ أنه لم تمر سوى سنوات معدودة حتى كان الكيان يغزو أكبر بلد عربي وهو مصر في عام 1956م وتكرر الغزو عام1967م وكيف قام الكيان باحتلال أرض مصرية وسورية وأردنية، وبلغ به الصلف إلى احتلال عاصمة دولة عربية هي بيروت، وامتدت يده الخفيفة إلى العراق لتدمير أول مفاعل نووي في بدء تكوينه، ووصلت عصابته إلى تونس الخضراء. ولو كانت الأنظمة العربية وعت حلم ذلك المفكر العربي منذ وقت مبكر لما تجاسر العدو على ارتكاب كل هذه الأفعال دونما خوف من الرد والردع.
ويبدو الفارق شاسعاً بين أحلام اليقظة وأحلام النوم، فالأولى تتم بكامل الوعي وتطمح إلى التغيير وإلى تقديم نماذج بديعه لمدينة المستقبل الفاضلة. بينما أحلام النوم وفق ما ذهب إليه «فرويد» اجترار لأحداث الماضي، أو اجترار للشظايا المتبقية منه في اللاوعي، في حين أن أحلام اليقظة تشكل طريقاً إلى الوعي وإدراك الواقع واحتياجاته. وحاجتنا إلى مثل هذا النوع من الأحلام تتزايد كلما تزايدت وطأة الاجتياح الكاسح للتخلف وفقدان القدرة على تحقيق الحياة الكريمة للإنسان على أرضه وفي وطنه.
وهو أمر صحي، بل أكثر من صحي أن يضحّي إنساننا العربي بجزء من وقته في أحلام تتعلق بالمستقبل والبحث عن الخلاص من الكوابيس الواقعية التي نصطدم بها مع كل خطوة نخطوها، ومع كل نشرةأخبار تصدر عن هذه القناة الفضائية، أو تلك. وإذا كان الآخرون الذين يشاركوننا بأجسادهم سكنى هذه المعمورة يعيشون أحلامهم المحققة، فإن أقصى ما نتمناه أن نعيش في أحلامنا التي لم تتحقق هروباً من قسوة الإحباط والضجر.
نقلاً عن صحيفة الخليج