كيف يمكن لجماعة مسلحة نشأت في كهوف وجبال محافظتَي صعدة وعمران الريفيتين، كالحوثية، أن تؤثر في مواقف المنظمات الأممية وقراراتها وتقاريرها بشكل خاص والدولية بشكل عام؟!
هذا السؤال تردد كثيراً في الآونة الأخيرة، ومن المهم الإجابة عنه بكل شفافية ووضوح ليفهم القارئ العربي كيف اخترقت هذه الجماعة المنظمات الدولية عبر أدواتها الناعمة.
ينتمي عبد الملك الحوثي إلى السلالة الهاشمية، التي تدعي تاريخياً بأن الحكم، في أي زمان ومكان، يجب إلا أن يكون لها بدعوى انتسابها إلى الإمام علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجه. هذه الأسر التي تؤمن بنظرية الاصطفاء، توجد بكثرة في شمال اليمن، وهي التي كانت تحكمه قبل 26 سبتمبر (أيلول) 1962 لأكثر من أحد عشر قرناً، ولم تنجز لليمنيين خلالها أي منجز يستحق الذكر. ولأنهم مكوّن من مكونات الشعب اليمني، فهم يتساوون مع بقية اليمنيين في كافة الحقوق والواجبات، بحسب القانون اليمني الذي لا يعطي أي امتيازات لأي مكون مجتمعي كان، ويساوي الجميع أمام القانون. وبناءً على ذلك، كان للأسر الهاشمية وجود كبير في المؤسسات الحكومية اليمنية كافة كغيرهم من اليمنيين، بل كان لهم بعض الاستثناءات إثر تسويات سياسية سابقة بعد حروب ما بعد الثورة. وهذا ما جعل حظوظهم في التعليم النوعي وتولي الوظائف العليا أفضل بكثير من غيرهم.
ساعدت هذه المزايا الحركة الحوثية في التميز عن بقية الجماعات الإرهابية الأخرى؛ بكونها تملك جناحاً مدنياً متغلغلاً في مختلف مؤسسات الدولة اليمنية إلى جانب جناحها العسكري الذي خرج من صعدة. فمع ظهور التمرد الحوثي في صعدة منذ 2004، أيدت كثير من الأسر الهاشمية – ليس كلها بالتأكيد - عبد الملك الحوثي، ووقفت إلى جانبه باعتباره إمامها الديني والسياسي لهذا الزمان، الذي جاء ليعيد لهم الحكم مجدداً بعد أكثر من 50 عاماً من الثورة التي أطاحت حكم آل حميد الدين الهاشمي. وبمجرد المبايعة والتأييد السري للجماعة، عمل أفراد هذه الأسر «الحوثية» من مواقعها المدنية والعسكرية في الدولة لخدمة جماعة الحوثي المسلحة. هذا الوجود الكبير كان أحد العوامل التي ساعد الحوثيين في إسقاط الدولة اليمنية عسكرياً في يد جماعة لا تحظى بأي تأييد شعبي بعدما عملت عناصر الحوثي المنتسبة إلى الجيش والأمن والمخابرات والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على تسليم العاصمة صنعاء وبقية المدن لميليشياتهم المسلحة، من خلال منظومة من الأنشطة والإجراءات والخيانات التي بدأت مع ظهور الجماعة في 2004 في محافظة صعدة.
وكما توجد العناصر الحوثية في المؤسسات الحكومية والمدنية في اليمن، فهي توجد في مكاتب المنظمات الأممية والدولية الأخرى، وفي السفارات والوكالات الدولية المختلفة.
هذه العناصر، وإن اختلفت في ألقابها وانتماءاتها السياسية ومناطقها الجغرافية، لكنها في نهاية المطاف تنتمي إلى السلالة نفسها التي ينتمي إليها زعيم جماعة الحوثيين عبد الملك الحوثي (أبناء عمومة)، والتي تعتقد بأن الحكم منحة لها فقط، وأن قتالها في سبيل ذلك فرض ديني لازم.
وباستحواذ الجماعة على تلابيب السلطة ضغطت الميليشيا على المنظمات، من أجل توظيف أو ترفيع الهاشميين العاملين لديها ليصبحوا في أعلى المراتب الوظيفية فيها يشاركون في صناعة قراراتها. وبذلك، يعمل أولئك الموظفون على توجيه أنشطة تلك المنظمات، ويزودون قادتها بمعلومات إنسانية أو أمنية مضللة للتأثير على بياناتها الصحافية وتقاريرها الرسمية، التي يقومون من خلالها بتضليل المجتمع الدولي ورفع معلومات خاطئة عن الوضع في اليمن. ويكون مصير المنظمة التي ترفض إملاءات الجماعة تعقيد عملياتها الإنسانية، ومن ذلك احتجاز أو منع حركة موظفيها، أو إغاثاتها إلى المناطق التي تحتاج إلى الإغاثة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الموظفين الحوثيين في هذه المنظمات على تنسيق مستمر مع قيادات الجماعة، وتنقل لهم المعلومات التي يتلقونها عن المنظمات، وخطط عملها لإغاثة المدنيين في مناطق سيطرة الحكومة. كما أن لهذه العناصر دوراً حقيقياً في إرهاب الموظفين الأمميين، وإقناعهم بعدم الدخول إلى محافظة تعز المحاصرة، التي ترتكب فيها جماعة الحوثي أبشع الجرائم ضد المدنيين منذ أكثر من عامين ونصف العام. ولعل أحد أهم الانتهاكات الإنسانية لهذه المنظمات عدم محاسبة أولئك الموظفين الذين يقومون بنقل أسماء وبيانات النازحين المستفيدين من إغاثة تلك المنظمات إلى الميليشيا، وهذا ما يعرض بعضهم للخطر.
نستطيع أن نقول، إن مكاتب المنظمات الدولية في صنعاء في حكم المحاصرة، وهي لا تستطيع إطلاقاً التعبير عن التحديات التي تمارسها الجماعة على عملياتها الإنسانية، وتمنعها من ممارسة أعمالها بمهنية وحيادية تامة؛ لأنها لو فعلت ذلك لوجد أغلب الموظفين الدوليين أنفسهم في معتقلات الحوثي أو الطرد خارج البلاد، وقد حدثت حالات عدة مشابهة لذلك. فلا يمكن للموظف الدولي أن ينتقل إلى موقع مارس الحوثيون فيه انتهاكات، ولا يمكن للموظف الدولي أن يتحدث دون إذن مع أي يمني كان، ومنهم من تعرض لانتهاكات من قبل الحوثيين، وكل البيانات التي تصل إلى مكاتب المنظمات في صنعاء، ومن ثم إلى المنظمات الأم خارج اليمن تمر أولاً بمخبرين خارج المنظمة أو موظفين حوثيين داخلها ليتم فلترتها ومن ثم نشرها. وأحدث مثال لذلك، قيام الجماعة في سبتمبر الماضي بمصادرة شحنة كبيرة من شحنات مكافحة وباء الكوليرا كانت منظمة «أوكسفام» البريطانية خصصتها للمحافظات الجنوبية، ولم تقم المنظمة بصورة واضحة بإدانة الحادثة أو حتى مجرد الإعلان عنها.
لا يتوقف الأمر هنا، بل إن عناصر الحوثي تتمتع بقدرة عالية على الوصول للمنظمات والوكالات ووسائل الإعلام الدولية بالاستعانة بأذرع إيران و«حزب الله»، أو نظراً للعلاقات الواسعة التي تربطها بكثير من الشخصيات الغربية، وصل بعضها للمصاهرة.
وبمناسبة الحديث عن الدور السلبي للمنظمات الأممية والدولية في اليمن، سأختم بأحد تجاوزات هذه المنظمات التي حدثت مؤخراً بحسب موقع وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) التابع للحوثيين، والذي نشر خبراً مفاده أن وزير المياه والبيئة ومحافظ صعدة الحوثيين يفتتحان ويضعان حجر الأساس لعدد من المشاريع المدعومة من «اليونيسف» و«أوكسفام» البريطانية.
نُشر الخبر في 9 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وقد أشار إلى أن المسؤولَين الحوثيين قاما أيضاً بالافتتاح الرسمي لـ«المقر الجديد لمنظمة (أوكسفام) في محافظة صعدة».
لا يمكن لعاقل أن يستاء من تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية لأهالي محافظة صعدة المنكوبة منذ 2004 من قبل الحوثيين، لكن الخطأ هنا هو أن تدعو هذه المنظمات قيادات جماعة انقلابية مسلحة ومدانة أممياً بحسب القرار 2216، وتمارس أبشع الانتهاكات ضد الشعب اليمني وتنهب المساعدات، لتطلب من المنتهكين وضع حجر الأساس وافتتاح مشاريع إنسانية، وهي تعلم أن الجماعة تصوّر في إعلامها بأن مثل هذه الممارسات بمثابة اعتراف بحكومة الحوثيين وتعزيز لسلطتهم بين الأهالي.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط