بعد أن بدأ غبار عاصفة الصدمة بالاندثار، وأصبح هناك مجال أوسع للرؤية، من المهم أن نعيد النظر إلى الوراء لنرتب أجزاء الصورة، لنعرف ما الذي حدث وكيف تحولت الآمال بخطوات اقتصادية وضبط الموارد والحفاظ على استقرار العملة، إلى ما بدا أنه الصدمة الأسوأ منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي على الأقل.
وفي البداية من المهم، التأكيد على أن البنود المعلنة من قبل المبعوث الأممي هانس غروندبرغ، بصيغة اتفاق لا تترك لأي كان، مجالاً للدفاع عما جاء فيه، أو البحث عن فوائد بين ثناياه. أما الجزء الآخر، وهو التأكيد على أن البنك المركزي اليمني بقيادة الاقتصادي الوطني الكبير أحمد غالب المعبقي، هو المخول أمام اليمنيين بضبط الوضع المالي وفقاً لصلاحياته ومسؤولياته التاريخية، وفي ظل الحرب الحوثية الاقتصادية، التي سعت إلى تعطيل ما تبقى من موارد الدولة في المناطق المحررة من سيطرة الجماعة.
حاول محافظ البنك المركزي أن يمنع أقصى قدر مستطاع من مضي الاقتصاد إلى الانهيار، بعد أن اشتدت الأزمة الاقتصادية في الأعوام الأخيرة، والجميع تقريباً على مختلف التوجهات والآراء والتيارات، وقفوا وقوفاً كبيراً مع هذه القرارات، ومع تأديب المتلاعبين بالعملات، ومع الضغوط التي مارسها على البنوك التجارية الكبيرة، ليس بهدف إرهاقها أو استهدافها، ولكن هذه الضغوط، البنوك نفسها أحوج ما تكون إليها، لتخفيف عنها التدخلات والوصاية والإتاوات الحوثية. وقد جاء القرار بمنع تعامل الشركات المصرفية مع البنوك، ولكن بقاء عملها، ولاحقاً مهلة شهرين، لنقل مقراتها.
إلى هنا كانت الأمور تسير في الاتجاه الإيجابي وتحقق هدفها في ضبط الاقتصاد وتنتقل من موقع الدفاع أمام حرب الحوثي الاقتصادية وعلى العملة المحلية والتي أدت لوصولها مراحل تهدد بمزيد من الانهيار، لينتقل البنك المركزي في عدن إلى موقع الفعل وليس مجرد تلقي الضربات.
شيئاً فشيئاً، بدأت الأمور تخرج عن مسارها، الواقع الذي لا يختلف عليه اثنان وسبق أن تحدثت عنه في مقالات سابقة، هو أن البنوك التجارية الكبيرة، جزء لا يتجزأ من اقتصاد البلاد، وفي أي بلد من بلدان العالم. بقاء المقرات الرئيسية لهذه البنوك في صنعاء، ناتج عن كونها نشأت ووثقت بنيتها التحتية والمالية في عاصمة البلاد، التي لم يكن أحد يتوقع من قبل أن تصير إلى ما صارت إليه. وبصرف النظر عن التفاصيل، قرار هذه البنوك بنقل مقراتها أو مركز عملياتها المالية، ليس بيدها، لأن الحوثي باختصار شديد، سوف يسطو على هذه البنوك وأصولها وودائعها. في وقتٍ ليس هناك أي استعداد لدى الشرعية، للتعويض.
لهذه الأسباب، سبق وكتبت قبل التراجع عن القرارات، إنها أصلاً بهدف الضغط وليس التنفيذ، لأن من شأن استهداف البنوك مزيداً، أن يصيب ما تبقى من اقتصاد في مقتل، ولهذا كما ذكرت سابقاً، رأينا كيف أن البنك المركزي في عدن، أمر بفتح البنوك الستة بالقوة، عندما أغلقت أبوابها.
ثلاثة أسباب انتهت إلى نكسة
إذن، هل كان يجب إغلاق البنوك أو سحب السويفت كود أو تراخيصها؟ كان ذلك كمرحلة متقدمة من الضغوط، وليس التنفيذ. لكن ما الذي جعل هذه المعركة الشريفة والوطنية تنتهي إلى نكسة؟
أولاً: التفسير الخاطئ والعاطفي للناس بالتفاعل مع إجراءات البنك المركزي اليمني، والمطالبة بتنفيذها، وكأن ذلك سيحل كل مشاكل اليمن. كل ذلك أعطى حماساً وفهماً خاطئاً اضطر البنك المركزي لتوضيحه عدة مرات بإصدار بيانات تحذر من تناقل أي معلومات لا ينشرها رسمياً.
ثانياً: مجلس القيادة لم يخذل البنك المركزي، ووقف مع قراراته في كل الاجتماعات والمواقف، وهذا ما أكده الاقتصادي الكبير أحمد غالب المعبقي في نص الاستقالة التي قدمها.
في المقابل، هل كان على المجلس الرئاسي أن يرفض أي وساطات أو جهود إقليمية تسعى للتهدئة؟ بالتأكيد لا. خصوصاً أنها من داعمي الشرعية الأساسيين الذين بدون دعمهم كان وضع الاقتصاد قد وصل إلى الحافة، أكثر من مرة. وإذا كان داعمو الشرعية يرون أن من غير المصلحة الدخول في التصعيد، فإن لوم مجلس القيادة والحملة العاصفة، التي هاجمته في هذا الملف بالذات، انجرفت تحت تأثير الصدمة الكبرى بمسمى اتفاق.
وهنا يأتي دور العامل الثالث، وهو صيغة البيان الأممي الذي حمل عبارات حرفية من مطالب الحوثيين إن لم يكن قد أعطاهم أكثر مما يريدون. في الوقت الذي لا يعارض الناس الاتفاق، وإنما يريدون اتفاقاً فعلياً تؤتي فيه الضغوط والقرارات الشجاعة للبنك المركزي ثمارها، بخطوات تهدئة اقتصادية نحو إنهاء الانقسام المصرفي وفارق سعر العملة. لكن ما حصل كان مراضاة للحوثي لا أكثر.
وضع مجلس القيادة
وفقاً لكل ذلك، هل انهار مجلس القيادة؟ وهل انتهى كل شيء؟ وهل أصبح الحوثي شرعياً بهذا الاتفاق؟
ما يجب أن يدركه الجميع هو أن الحوثي ومهما حصل على مزايا وفوائد سياسية بهذا الاتفاق، إلا أنه ما يزال في وضع أسوأ مرات مضاعفة من وضع الشرعية. فمعركة الحوثيين مع اليمنيين ومع العالم ما تزال مفتوحة. والرحلات إلى الهند ومصر والأردن، لن تغير شيئاً. كما أن طيران اليمنية في الأصل، كانت قد اتخذت موقفاً أسهم بالحفاظ عليها بعيداً عن الصراع، ولم يستجد الكثير في وضعها.
وفي المقابل يعتمد وضع الشرعية، على ما سيحدث لاحقاً، وإذا ما كانت أية خطوات قادمة ستضع الاتفاقات والجهود في مسارها الصحيح والمتوازن والذي يحقق أدنى مقتضيات السلام من عدمه. وسبق أن مرت الشرعية بظروف أكثر صعوبة في سنوات سابقة. لكن هذا لا يجعلها في نطاق آمن، بل يعتمد الأمر على كيف ستتصرف فيما بعد وتتدارك مكامن الخلل. يجب أن تعود للبنك المركزي هيبته ويجب أن يثبت المجلس الرئاسي حضوره، ونحن نعلم أنه لم يكن يرغب في أن يحدث ما حدث ولا في تلك الصيغة وأمامه الكثير ليصلح كل ما يمكن إصلاحه.
أما من الجانب الآخر وللعالم نقول: يخوض اليمنيون منذ سنوات طويلة صراعاً وجودياً مع مشروع عنصري لا يعترف بحقوق الناس ولا بالمواطنة المتساوية ويدمر فرصهم ومقدرات بلادهم في حروب داخلية وخارجية. خلال هذه السنوات، شهد اليمن لحظات أصعب بكثير مما هو اليوم. وإذا كان الحوثي قد حقق ما يعتبره نصراً عن طريق الابتزاز والتسلل، فقد حقق في فترات سابقة ما هو أكبر من ذلك بكثير. لكنه بقي ذلك، الذي ما يزال بعد عشر سنوات على سيطرته على صنعاء، جماعة متمردة، بل ترقى في التصنيفات إلى قوائم الإرهاب. وسبق أن تحاور مع السعودية في فترات مختلفة حتى بعد 2015. ولا يجب أن يعطي الناس للحوثي نصراً أكبر بالتضخيم من شأن التراجع الذي حصل.