قرأت قبل قليل بحثا مفصلا للدكتور القدير عارف بن أحمد الصبري بعنوان "القول الصحيح في مقتل الحسين والموقف الشرعي منه".
ورغم عدم موافقتي للدكتور في توصيف اجتهاده بأنه "الموقف الشرعي"، واختلافنا معه في بعض الخلاصات، إلا أنه بذل جهداً يشكر عليه ويؤجر، ولقد اجتهد في إبراء ذمته في مسألة شائكة بات مؤكدا أن الزهد في نقاشها لم يكن صوابا. إذ لابد من وضع نهاية لدوران الأمة في فلك الخلاف السياسي القرشي بوصفه خلافا نحكّم فيه الدين لا أن نطوّع الدين من أجله.
ولي ملاحظة وحيدة، وهي أن مجتهدينا الأفاضل اليوم يحاولون احتذاء مجتهدين أفاضل في القرن الثالث الهجري، كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والفارق بين اجتهاد هؤلاء واولئك أن السابقين اجتهدوا وفق مقتضيات الزمان والمكان، وأبدعوا رؤية كانت سببا في تهدئة غلواء التشيع إلى حين.
ربما يفوت على مجتهدينا الأفاضل اليوم أن التشيع رغم تعاسته وانحراف منطلقاته ومساراته إلا إن له حركة ديناميكية ذكية بفعل المصالح التي يصنعها للفئة المتشيَّع لها. بالتالي فقد استفاد مع مرور الزمن من اجتهادات الأمس تلك القائمة على الامتصاص والاحتواء وسحْبِ البساط على المغالين والمزايدين، فاعتبر شهاداتهم المتعاطفة دليلا على صحة دعواه ومنحاه، وصار يحاجج عامة المسلمين بآراء أعلام اوائل.
ولو كان أولئك الأعلام الأوائل في زمننا هذا لأبدعوا رؤى تعمل في حسبانها تهافت التشيع وتفوّت عليه الاستفادة مما يمكن وصفه: تقوى الاحتواء.
لقد تعطل الفقه السياسي "المشائخي" زمناً بعد أحمد بن حنبل، إلى جاء شيخ الإسلام احمد بن تيمية فدوّن وثيقة قواعدية من ثماني صفحات أسماها "العقيدة الواسطية"، نسبة إلى مدينة واسط بالعراق مكان كتابة الوثيقة.
فصّلت الوثيقة ثوابت "أهل الجماعة" في جوانب العقيدة وتوحيد الألوهية والربوبية والاسماء والصفات.. لكنها اكتسبت أهميتها من الرؤية المقدمة في مسائل الخلاف الناتج عن مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه وما تلاه من أحداث أسهمت في نشأة وبلورة تيار التشيع الذي ظل من يومها وإلى الآن مصدر القلاقل في جغرافيا الأمة.
كتب ابن تيمية تلك الوثيقة وهو صغير السن ثم استدرك الكثير منها في فتاواه، إذ صار أكثر دقة وحزما وصرامة في الفتاوى لكن كآراء مبعثرة على عكس العقيدة الواسطية المختصرة الملمومة والتي صارت المرجع والمرشد للكثير من طلبة علوم الدين.. والمؤسف أن العقل السلفي توقف من يومها ولم يمض على نهج السلف في التجديد فينسج وفق منوالهم، لكنه أخذ المحتوى لا المنهج، ولذا بات عاجزا عن مجابهة العوائق المستجدة.
أقول: مع تقديرنا لاجتهادات الأعلام السابقين، إلا أنه يلزمنا اليوم وثيقة جديدة قليلة الصفحات، تحدد موقفا صريحا من الفتن المتوالدة جراء فكرة الوصية والولاية والآل، تلك الفكرة الناقضة للدين والمُفسدة للدنيا. وثيقة لا تترك بابا للتسلل السلالي، وليس فيها مداهنة ولا انتقاء.
لقد صار ابن تيمية شيخا للإسلام حينما نهضت همته وكان على قدر التحديات في عصره، ولا يمكن أن يصبح أحد مجتهدينا اليوم بقامة ابن تيمية ما لم يكن بتلك الهمة وعلى قدر تحديات اليوم.. أما الوقوف عند محصلة مجابهة تحديات الأمس فليس اجتهادا ذا قيمة بل هو محاولة لإعادة صياغة موقف استوفى فوائده في زمانه ومكانه. وبالله التوفيق.