تتربع العنصرية على رأس الأسباب التي تشعل الصراعات بين الشعوب، فهي تدفع الجماعات الدينية أو العرقية لتعتدي على حقوق غيرها لاعتقادها بأفضليتها وتميزها عن الآخرين. والتمييز العنصري بطبيعة الحال، يلازمه استحقاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية؛ وتحت وهم «النقاء العرقي» أو «الاصطفاء الديني» تبيح الجماعات أو الكيانات العنصرية لنفسها ارتكاب أعمال القتل والنهب والسرقة والتهجير وغيرها من الجرائم التي تحدث منذ الأزل، وستستمر ما بقيت العنصرية متفشية.
ونجد أن الدول المستقرة والتي تشهد نموًا ونهضة في المجالات كلها اتخذت قرارها أولًا بمواجهة ثقافة العنصرية بحزم عبر سن القوانين التي تجرم التمييز العنصري بكافة أشكاله وأنواعه ومستوياته ومعاقبة من يمارسه؛ لإدراكها أن التعايش المجتمعي القائم على مبدأ المساواة هو ركيزة الاستقرار ومنطلق النهضة والتوجه نحو البناء بالقدرات والكفاءات لا بالأوهام وادعاء الحق الإلهي أو النقاء العرقي.
ولا تختلف اليمن عن الدول الأخرى التي سادت فيها الحروب، إذ نجد أن العنصرية كانت وما تزال أحد أهم أسباب اندلاع الحروب فيها، لاسيما تلك المغلفة بالدين، وبسببها عاش اليمنيون قرونًا طويلة تحت وطأة المعاناة وجحيم المآسي.
تؤمن جماعة الحوثي بخرافة «الولاية» التي تتناقض مع مقاصد الأديان السماوية منها الدين الإسلامي الحنيف الذي يدين به الشعب اليمني، كما تصطدم بمبادئ وقيم حقوق الإنسان، وعلى رأسها المساواة، والتعايش، واحترام المعتقدات، والعدالة، وغيرها من القيم التي توصلت إليها البشرية في مراحل نضالها، وكانت في كل ذلك تهدف إلى القضاء على الظلم والقهر، وإنهاء التمييز العنصري بين البشر؛ كونهم متساوين في الحقوق والواجبات.
ولأن آثار التمييز العنصري في اليمن تتسع يومًا بعد آخر وتلقي بثقلها الكارثي على كاهل المجتمع اليمني، كان لا بد من رصد ومواكبة ولو بعض أشكال هذه الجريمة الممنهجة والمنظمة.
لقد انتهج الحوثيون سياسة قاسية لتجويع المجتمع اليمني بغية تحقيق أهداف مختلفة أشرت إليها في ثنايا هذا العمل، وأهمها وأخطرها على اليمنيين والعرب بشكل عام هو «الإبادة الثقافية»، واستهداف هوية اليمن ومعتقدات شعبه.
فالاستلاب الاقتصادي والاجتماعي هنا، هدفه الإجهاز على هوية اليمنيين. كما أن سرقة الرغيف والتحكم به، هدفه السيطرة على العقول، وترسيخ هوية جديدة قائمة على تقديس السلالة وتحقير الشعب.
في هذا السياق، يأتي الكتاب الذي بين أيدينا كمحاولة لتوثيق جريمة التجويع بوصفها واحدة من أبشع الجرائم المعاصرة التي ما كانت لتحدث لولا التمييز العنصري واعتقاد سلالة بعينها أنها مميزة عن غيرها، وأن الله اختارها لحكم اليمنيين وامتلاك رقابهم ولو بالقوة، ما جعلها ترتكب جريمة متعددة الأوجه والأبعاد؛ أي أكثر من جريمة في وقت واحد. من هنا كان اختيارنا لعنوان الكتاب «الجريمة المُركّبة».
وأمام هذا المشهد الخطير على اليمن كان لابد من تحمل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية والشروع في توثيق جريمة التجويع الناتجة عن العنصرية؛ كي لا تضيع تفاصيلها المؤلمة وسط دوامة الصراعات والنزاعات، وتندثر وتصبح جزءًا من غبار التاريخ. إذ لا ينبغي أن يتجاهل اليمنيون أسباب الكوارث التي يتعرضون لها، وعلينا أن نكتب إجابات الأسئلة التي ستضعها الأجيال القادمة عن أسباب هذه المعاناة التي حدثت وامتد أثرها إليهم.
يسلّط هذا الكتاب الضوء على مأساة اليمنيين في مناطق سيطرة الحوثيين تحديدًا؛ لأن هذه المعاناة لم تكن ناجمة عن العجز أو الفشل، بل عن سياسة حوثية متعمدة لإخضاع اليمنيين في تلك المناطق، ولا شك أن هناك فرقًا بين فشل وعجز أي سلطة أو جماعة في توفير احتياجات الشعب الذي تسيطر عليه وعلى مقدراته وموارده، وبين تحويله إلى رهينة يتم تجويعه لإخضاعه وطمس هويته ومعتقداته ثم استخدامه لابتزاز العالم بوضعه الإنساني.
إن التركيز على توثيق الجريمة وتحديد جذورها ودوافعها السلالية والطائفية هنا، هي محاولة لتشخيص المشكلة بدقة بعيدًا عن المواربة والاهتمام بالقشور، وأنا بذلك أقدم دعوة مخلصة لحلها بشكل منصف وعادل ودائم بما يضمن العدل والمساواة بين اليمنيين كلهم، وعدم ظلم أي مكون من المكونات؛ ففهم المشكلة بشكل دقيق يسهم في إنجاز الحل.
وقد استندت في هذا الكتاب على شواهد تاريخية في أكثر من موضع، للمقارنة بين ما يفعله الحوثيون اليوم، وما فعله أسلافهم بالأمس، وذلك لإثبات أن هذا السلوك الإجرامي جزء من معتقد هذه الجماعة، وأنه ثابت في كتبهم كعقيدة، وهذا ما يستوجب الدراسة والمعالجة لإنهاء معاناة اليمنيين المتجذّرة، والتي ثبت من خلال المقارنة أن مصدرها الأول هو الاعتقاد العنصري القائم على العرق والنسب.
ولقد حرصت ألا أضع معلومة في هذا الكتاب إلا وأحدد مصدرها ومرجعها، وتوثيقها من التقارير الدولية المحايدة التي عنيت بالوضع الاقتصادي والإنساني والحقوقي في اليمن، كما جعلت شهادات الحوثيين أنفسهم أولوية للتأكيد على ما جاء في كثير من القضايا، إضافة إلى أني اعتمدت على عدد من الوثائق بعضها ينشر لأول مرة.
جاء الكتاب بعد جمع مادته وتحليلها موزعًا على أربعة فصول، ناقشت في الفصل الأول جذور هذه الحرب وبُعدها التاريخي، وسياسة التجويع التي ينتهجها الحوثيون اليوم على غرار ونهج أسلافهم في الماضي، إضافة إلى أهداف التجويع وجعله مدخلا إلى جريمة الإبادة الثقافية وطمس الهوية الوطنية لليمنيين. وتتبعت في الفصل الثاني أبرز أساليب التجويع المباشرة التي مورست بحق المجتمع اليمني. أما الفصل الثالث فخصصته للتهجير وسرقة المساعدات وانهيار الوضع الصحي وخطر مئات الآلاف من الألغام التي تفرد الحوثيون بزراعتها، إضافة إلى حصار المدن والمناطق الآهلة بالسكان واخترت مدينة تعز كمثال لذلك. وفي الفصل الرابع تحدثت عن تضرر العملية التنموية في اليمن جراء ممارسات الحوثيين، وانتكاس رأس المال البشري بسبب سياسة التجويع. وختمت هذا الفصل بتوثيق شهادات ودراسات دولية وعربية تؤكد هذه الجريمة، وتناولت الموقف القانوني من بعض هذه الجرائم.
ولم يكن جمع وتحليل هذه المادة سهلًا، فقد استغرق ذلك أكثر من خمس سنوات من البحث والتقصي والمتابعة والكتابة حتى كان هذا الكتاب بهذا الشكل.
لم أقم بهذا العمل إلا نصرة للمظلومين والمقهورين ممن جوعهم الحوثيون وهجروهم وغيبوهم في السجون ومارسوا العنصرية ضدهم خلال سنوات الحرب. وأسأل الله أن يسهم هذا الجهد في إيجاد حلول جذرية لما يحدث في موطني، وبما يضمن إنهاء التمييز العنصري والظلم والقهر والمعاناة، وتعزيز قيم المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والتعايش.