اطلعتُ على شبه قصيدة هي إلى النثر المنظوم أقرب منه إلى الشعر، لأحد غلاة المتعصبة في صنعاء، ردا على الكاتب مروان الغفوري، والقصيدةُ طافحة بالكلمات البذيئة والطعن في عرض الكاتب المذكور، وفي عرض أمه بكل صراحة، وهالَني هذا المنحدر السحيق للأخلاق لدى البعض للأسف.
وسأتوقف عند نقطتين تتعلقان بهذا السلوك المشين:
أولا مثل هذا السلوك يُعتبر من قبيل الدفاع عن الدين عندهم، وهو جزء من عقيدتهم الدينية، وقد نسبوا للرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ أحاديث تؤكد معتقدهم هذا، إلى حد اعتبار أن كل من عارضهم هو ابن "سِفاح" أو "يهودي" أو "دعي" أو "شقي" أو "سلقلقي" كما في بحار الأنوار للمجلسي. 223/27.
ثانيا: هذه عادة تاريخية توارثها الهادويون في اليمن خلفا عن سلف، من لدن يحيى حسين الرسي، وحتى عبدو الحوثي. وسأتوقف هنا عند الإشاعات/ السفاهات التي أطلقها الرسي نفسه على خصومه اليمنيين، معتمدا على سيرته التي كتبها ابن عمه وقائد جيوشه علي بن محمد العلوي.
كان الشيخ الدعام بن إبراهيم ــ وهو من أكبر الشخصيات اليمنية في حينه ــ مناوئا ليحيى حسين الرسي، منكرا عليه أعماله وتصرفاته بحق اليمنيين، فشَنَّ الرسي حملة شعواء على الدعام، بغرض تشويه صورته أمام الناس، وتشويه تاريخه، وتاريخ عشيرته من بعده، فقال كاتب سيرة الهادي عن الدعام: "وكان معَ الدعامِ جُندٌ فسَّاقٌ يشربون الخمورَ ويركبون الذكور، ويفجرون بالنسَاء عَلانية..". انظر سيرة الإمام الهادي يحيى بن الحسين، رواية: علي بن محمد عبيدالله العباسي العلوي، تحقيق: سهيل زكار، د. ت، 94.
مضيفا عن الدعام في سياق الحملة عليه: ".. "إنَّه كان في عَسْكر الدعامِ في "بيت ذؤد" أربعمئة امرأة فاجرة، يظهرون الفجور علانية، لا يَستترون بذلك؛ بل يتحاكمُ العسْكرُ فيهن إلى سَلاطينهم وعُمَّالهم، وكانوا كل عَشية يجتمعون إلى بابِ سُلطانهم الفاسقِ فيلعبنَ بين يديْه، وينشرن شُعورهن، ويُبدين زينتهن، ويُظهرن محاسنَهن، ويلبسنَ أرقَّ ما يقدرنَ عليه من الثياب، ليبْدوَ ما خفي من أبدانِهن، فيأتي العَسكر، فإذا هَوى الرجلُ منهم واحدةً، دفع إليها دراهمَ بحضرةٍ من يحضرُ معهم، فلعلها لا تروح إليه تلك الليلة، فإذا أصْبح أتى إلى السُّلطان، وأعلمَه أن ملعونته لم ترح إليه، وقَدْ أخذتْ دراهمَه، فيأمر سُلطانه عند ذلك بأدبها، وبأن تصيرَ إلى صَاحبِها..". نفسه، 94.
وللقارئ أن يتخيل هذا العدد المهول الذي قد لا يملكه اليوم أكبر نادي للعهر في بلد غربي، على توافر الإمكانيات، قياسا إلى ذلك الزمن القديم بإمكاناته المحدودة..!
وحين ناوأه أهلُ "الأعصوم" وهي منطقة على مسير يوم من خيوان، أشاع عليهم أنهم يكرمون الضيف بتقديم بناتهم أو أخواتهم له، فتقضي نهارها أو ليلها مع الضيف؛ حتى يذكر أنه "يمس بطنها وجسمها، ويلمس موضع العورة منها، وأبوها ينظر وأمها"، وأنهم يرون أن ذلك حلالا. نفسه، 125.
وبهذه الشائعة التي لا يقرها عقل ولا منطق، وليست من ثقافة اليمنيين استطاع أن يجيّشَ العامة من الناس عليهم، فاستباح بلادهم وغزاها ونكل بأهلها بدعوى الجهاد والقضاء على الفسوق والعصيان، ولم تكن في الواقع إلا واحدة من الشائعات والمبررات لغزوهم، كما فعل ويفعل أحفاده من بعده إلى اليوم. وقبل أن يغزو بني الحارث في نجران نظم قصيدة وفيها:
أنا الحسني سيف الله حقا مذاع في الأداني والأقاصي
غضبتُ لخالقي فشهرتُ سيفي على أهل الدعارة والمعاصي
وقبل أن يغزو صنعاء ــ وكان يحكمها الجفاتم العباسيون ــ تعمد أولا نشر الإشاعات والأراجيف عنهم، فقال كاتبه: "وأمَّا الجفاتم فسمعتُ بعضَ أهل صَنعاء، يذكر أن الرجلَ منهم ربما حملَ الغلامَ من السُّوقِ للفسقِ، وكذلك المرأة يحمُلها بعضُهم من بعضِ الطريق، وكذلك كانتْ معهم الطنابيرُ والغلمانُ في الأسْواقِ، وكانوا يأخذونَ أموالَ النَّاسِ عُنوةً لا يقدرُ أحدٌ يكلمُهم". نفسه، 205.
وذات التكتيك والأسلوب استخدمه الرسي مع منطقة يُقال لها: الأخطوط مما يلي ذمار، حين سمع بمناوءة زعيمها إبراهيم بن خلف له مع أفراد القبيلة، قال فيهم كاتب سيرته: "..كان الفسق فيها ظاهرا، فلما صار الهادي بالأخطوط خرج منها خلق من أهل البلاء في أنفسهم والنساء الفواسد، وكن بها مقيمات مع إبراهيم بن خلف لعنه الله.."، كما ذكر أنه ظهر فيهم أيضا حتى بعد رحيل الهادي نفسه بعض الفاسدين من أهل الفسق، ممن يجمعون بين الرجال والنساء. نفسه، 213.
كما أشاع أن أهل "قُدم" من الخوارج، وأن صعصعة بن جعفر من أهل البون كان يأخذ بعض النساء للفجور، وكان يشرب الخمور. نفسه 216؛ واتهم أهل صنعاء حين طردوا عماله منها بأنهم "لا يريدون أن تقوم للدين قائمة، ولا ينتهون عن شرب الخمور وارتكاب الفجور". نفسه، 221.
وتبع الرسيَّ من بعده أحمد بن سليمان الذي اتهم أهل يام بقوله: "ما بقي منهم من يصوم رمضان، وارتكبوا الفواحش، وجعلوا لهم ليلة سموها ليلة الإفاضة، فيرتكبون فيها الأخوات والأمهات والبنات، ويفضي بعضهم إلى بعض، فلا يبقى شيء من المنكر إلا يفعلونه، ويشربون الخمر، ويدمنون على شربها". قائلا شعرا:
لستُ ابن أحمد إن تركت زعانفا يتبخترون وينكحون سفاحا
يتواعدون كل ليلة جمعة فإذا تلاقوا أطفأوا المصباحا
انظر سيرة الإمام أحمد بن سليمان، ص 182 فما بعدها
واتهم السفاح عبدالله بن حمزة نساء "ذي مرمر" من بني حشيش بأنهن ممن تعلقن بمذهب الباطنية، وهو إشارة واضحة للطعن في شرفهن والنيل من كرامتهن، كما هي أيضا فتوى مبطنة لأتباعه وجيوشه باستباحة أعراضهن وهتك سترهن، نظرا لما انطبع في أذهان الناس عن الباطنية أنها جماعة إباحية، فاسقة، خارجة عن الإسلام حد قوله، انظر: السيرة المنصورية، أبو فراس بن دعثم، تحقيق: د. عبدالغني محمود عبدالعاطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ط:1، 1993م، 170.
ولكم أن تتخيلوا أنه حتى الإمام الشوكاني على جلالة قدره لم يسلم من سفاهة القوم، إذ أمطره الفقيه الجارودي المتعصب محمد بن علي السماوي، الملقب بابن حريوة السماوي بجملة ألفاظ سوقية مثل: "كافر لعين، كلب، حمار، سفيه، مهين، ملحد، دجال، فاسق، منافق، ضال، خبيث، لئيم، ماص بظر أمه، مجانب للإسلام، منحرف عن الملة، قرين الشيطان، منتحل للدين، شيطان الإلحاد..". كل هذه الألفاظ وردت في النسخة الأصل من كتاب الفقيه ابن حريوه السماوي، "الغطمطم الزخار المطهر لرياض الأزهار من آثار السيل الجرار". وقد حذفها المحقق محمد سالم عزان، ونبه على ذلك في مقدمة التحقيق. وقد تأكدتُ من ذلك بنفسي بتواصلي معه فأجابني بالقول: "حذفت تلك الألفاظ القبيحة التي لا دلالة علمية فيها، ووضعتها في جدول منفصل نُشر بالتزامن مع نشر الكتاب".
وهكذا تتواصل السفاهة ضد كل مناوئ ومخالف، باعتبارها دينا وعقيدة، ومن شابه أباه فما ظلم. و:
إذا كانت الطباعُ طباعَ سوء فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ