يُجمع كثيرٌ من الباحثين على أنَّ الزّيدِيّة من أقرب الفرق الشيعية لأهل السنة، مُستثنيين جماعة منها تُسمى (الجارودية)، نسبوها لأبي الجارود زياد بن المنذر (توفي سنة 150هـ) أحد أصحاب الإمام زيد بن علي المُتعصبين، وصفه المُحدثون بأنَّه كذاب وليس بثقة، وفيه قال الإمام جعفر الصادق: «لعنه الله، فإنَّه أعمى القلب، أعمى البصيرة»، وهي - أي الجارودية - أقرب إلى غلو الاثنى عشرية، والزيدي إذا تعصب يُسمى (جاروديًا).
على خلاف ذلك الإجماع، قال عَبْدالله بن حمزة: «الزّيدِيّة هم الجارودية، ولا يعلم في الأئمة - عليهم السلام - من بعد زيد من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك»، تبرءوا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنَّ الإمامة مقصورة في أولاد الحسن والحسين، وأوجبوا نصرة من خرج منهم طالبًا الإمامة، مُستدلين بحديث ضعيف نُسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من سمع داعينا أهل البيت فلم يجبه، أكبه الله على وجهه في النار».
جعلوا الإمامة أصلًا من أصول الدين؛ بل من أكبر مسائله، وقالوا: «أنَّها في الإمام علي، في النص الجلي»، ومن خالفهم حكموا عليه بالضلال والزيغ، وتبرءوا منه، واستحلوا حرمته، وامتنعوا عن الصلاة خلفه، حتى وإنْ وافقهم في غير ذلك من المسائل، وقد انتقدهم الإمام يحيى بن حمزة بقوله: «ليس أحد من فرق الزّيدِيّة أطول لسانًا، ولا أكثر تصريحًا بالسوء في حق الصحابة من هذه الفرقة».
الإمام زيد بن علي كان يُجل ويرضي على الخلفاء الراشدين، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما سأله أنصاره عن رأيه في الشيخين (أبي بكر، وعُمر) أجاز خلافتهما، وذكرهما بخير، انفضوا حينذاك عنه، وفسخوا بيعته، فخاطبهم بالقول: «اذهبوا فانتم الرافضة»، ومن هذا المنطلق فإنَّ الجاردويين ومن بعدهم الهادويين ليسوا زيدية؛ لأنَّهم لم يعترفوا أصلًا بخلافة الشيخين، ولا يجلوهما.
انحرف الطامح يحيى بن الحسين الرسي (توفي سنة 298هـ) كثيرًا عن المذهب الزيدي، وتبنى النظرية الجارودية في الإمامة، لا تقليدًا لأبي الجارود، ولكن توافقًا معه في الأصول العامة، أصل - هو الآخر - لنظرية الاصطفاء الإلهي، وجعل الإمامة موازية للتوحيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصرها بشقيها السياسي والديني في البطنيين، وجعل لها 14 شرطًا مُلزمًا.
وهو - أي يحيى بن الحسين - كما حرَّم الاجتهاد في المسائل الأصولية، ومنها الإمامة؛ لأنَّها شرعية، ولا مجال فيها للدليل العقلي، أجازه في المسائل الأخرى، وعلى وجه الخصوص جزئية الخروج على الظلمة، وهو المدخل الذي تسلل من خلاله لإقامة دولته الدينية، على اعتبار أنَّ حُكام الدولة العباسية (بني عمومته) ظلمة، وكل حاكم ليس من البطنيين ظالم، واجب الخروج عليه.
وكما حُصرت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، حصر الطامح يحيى الإمامة في ذرية محمد صلى الله عليه وسلم، رغم أنَّ النبي الأعظم لم يُعقب، والأدهى والأَمَرُ من ذلك أنَّه حكم على أبي بكر وعمر بالردة، وقال أنهما يستحقان حكم الإعدام، وزاد على ذلك بأنْ كفر جُموع المسلمين الذين لا يعتقدون تقديم علي بن أبي طالب عليهما!
لغَّم الطامح يحيى مذهبه العنصري بعدد من الآيات القرآنية التي تؤكد حقه في الحكم، فسرها حسب هواه، وجاء - أيضًا - بأحاديث تتصادم والنص القرآني، ومقاصد الشريعة، ومنها مقولة: «إنَّ الإمامة في قريش»، و«لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»!
حاشا على رسول الإنسانية، وعدو التعصب أن يقول مثل هذا الكلام، وهو الذي انتقل إلى جوار مُرسله ولم يوص، تاركًا لأصحابه حرية اختيار من يحكمهم، على اعتبار أنَّ السياسة ومغباتها اجتهاد بشري، كيف لا؟ وهو من خاطبهم ذات يوم بـ «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وأنهى دوره بقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا».
كذلك فعل ابن عمه علي بن أبي طالب الذي لم يوص حين حانت منيته لأحد من أولاده، وخاطب أنصاره قائلًا: «لم يوص من هو خير مني»، وحين آل الأمر بالشورى لولده الحسن، أعلن الأخير بعد ستة أشهر اعتزاله وتنازله لمعاوية بن أبي سفيان حقنًا لدماء المُسلمين، ولو كانت الإمامة عقيدة وحقًا مُتوارثًا لقاتل في سبيلها، بايع وشقيقه الحسين الحاكم الجديد، ولم يخرج الحسين على الأمويين إلا بعد أنْ انحرفوا على مسار دولة الخلافة، وجعلوها وراثة لا شورى، وهو هنا مثله مثل عبدالله بن الزبير بن العوام وغيره من أبناء الصحابة الثائرين.
على الرغم من مكانة علي بن أبي طالب وكتابه (نهج البلاغة) عند جميع فرق الشيعة، إلا أنَّهم خالفوا نهجه المُعتدل، وفي ذات الكتاب خطبة له - حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما - قال فيها: «دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول»، إلى أنْ قال: «وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميرًا».
وخاطب - كما جاء في ذات الكتاب - مُعارضيه في موقعة الجمل قائلًا: «والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها»، وأضاف: «وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداكُ الهيم على حياضها يوم وردها».
وراسل معاوية بن أبي سفيان قائلًا: «إنَّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أنْ يختار، ولا للغائب أنْ يرد، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضى، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى، قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى».
لم يُكفر علي بن أبي طالب الخارجين عليه، وطلب من أصحابه في موقعة الجمل صراحةً بـ «أن لا يجهزوا على جرحاهم، ولا يتبعوا مدبريهم، ولا يغنموا أموالهم»، وفي موقعة صفين التالية، وحين سمع قومًا من شيعته يسبون أهل الشام (شيعة معاوية)، خاطبهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم».
وجاء في كتابه الذي بعثه إلى الأمصار يذكر فيه ما جرى بينه وبين أهل الشام قوله: «والظاهر أنَّ ربنا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله، والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، والأمر واحد، إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء».
وحينما سُئل عن مصير القتلى من الجانبين، قال: «أسأل الله لهم الجنة»، مُؤسسًا بذلك لتشريع أجازه الجميع، إلا أنَّ من يدعوا أنَّهم أحفاده، خالفوه، وكفروا مُعارضيهم، وبالغوا في سبهم، وأجازوا قتلهم، وهدم منازلهم، وحرق وإتلاف مزارعهم، وسبي أموالهم في قتال أو في غير قتال.
والأكثر أهمية أنَّه - أي علي - لم يكن على وفاق مع أولئك المُغالين في تعصبهم له، وجاء في كتابه (نهج البلاغة) نصوص كثيرة تؤكد ذلك، منها قوله: «لوددت أنَّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم، يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين، صمٌ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو إبصار».
وقال أيضًا: «يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة - والله - جرَّت ندمًا، وأعقبت سدما، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتمونى نغب التًّهمَام أنفاسًا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان»، وقوله: «اللهم إني مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئمونى، فأبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي شرًا مني».
وكان - رضي الله عنه - أمام ذلك الغلو المُفرط يستشرف المستقبل، وروي عنه قوله: «وسيهلك في صنفان: مُحبٌ مفرط، يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغضٌ مُفرط، يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالًا النمط الأوسط»، وكان - أيضًا - مؤمنًا بالتطور والتغيير، ومن نصائحه الخالدة قوله: «لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم، فإنَّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».
وبالعودة إلى موقف علي بن أبي طالب من الخلافة، فقد روي عنه قوله بعد أنْ اختار أهل الحل والعقد أبا بكر خليفة: «فنظرت في أمري، فإذا طاعتي سبقت بيعتي، إذ الميثاق في عُنقي لغيري».
ويبقى السؤال: إذا كان هناك نص ديني مُلزم بتوليته - رضي الله عنه - ونسله الحُكم؛ فلماذا لم يقاتل من اختاروا غيره بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
وهكذا وباسم الدين المُزيف والولاية خدع الأئمة أنصارهم، وما يزال اليمن واليمنيون يكتوون بنار مذهبهم العنصري، ولعنة ولايتهم، ولأنَّ الفكر الكهنوتي لا يجابه إلا بالفكر العقلاني، وجب علينا جميعًا نقد كل ما هو سلبي في موروثنا المُثقل بالدم والصراعات، وفضح وتعرية أرباب التجارة بالأديان، أينما كانوا، وحيثما حلوا، واستشعار أنَّ الله الرحمان الرحيم لا يمكن أنْ يعطينا - كما قال ابن رشد - عقولًا، ويعطينا شرائع مُخالفة لها.
*من صفحة الكاتب