ما من إمام سُلالي إلا وطلب من أنصاره – حال قيامه – بأنْ يدعموه بأموالهم، تأكيدًا لصدق ولائهم، وقد كان الغازي يحيى الرسي سَباقًا في ذلك، أضحت تصرفاته مُهابة عند من تبعه من الأئمة أكثر من القرآن نفسه، وهذا الشريف الفاضل جعفر بن قاسم العياني خاطب مُستفتيه عن ذلك قائلًا: «ولولا ما ذكره أئمتنا عليهم السلام من الواجب علينا؛ لما تعلقنا بمال مُحرم، ولا دخلنا أبدًا في مأثم»، وأضاف: «وأنا أرى أنْ أجبر الناس على اثنتين، لسلامة اثنتين، يجبرون على الجهاد بالنفوس والأموال، دون الحريم والأديان»، وأقسم بأن أخذ تسعة أسهم مما في أيدي الناس أصلح لهم وأعدل من أن يتخلى عن الأمر، ليَخسر بسبب مطامعه حياته.
كان أخوه وسلفه ذو الشرفين محمد مثله تمامًا، وعن ذلك قال كاتب سيرتهما: «سألت الأمير الأجل ذا الشرفين بعد ذهاب الشريف الفاضل عن الحُجة في جواز هذه الجبايات، فقال: ما كنت أظن أحدًا أن يسألني عن هذه المسألة»، واستغرابه هنا يدل على أنَّها صارت أمرًا واقعًا سبق البت فيه!!.
المجرم عبدالله بن حمزة – هو الآخر – كان مُتماديًا في نهب أموال الناس، وقد قام بزيادة الأعشار على أهل الظاهر بحجة أنَّهم لم يخرجوا معه للجهاد، وقام بسن الضرائب والقبالات على رعاياه، وهو تصرف لم يقم به من سبقه من الأئمة حسب إفادة صاحب «أنباء الزمن»، كما أنَّه تعامل مع المناطق التي أخذها من الأيوبيين كأراضٍ خراجية بدليل قوله: «إنَّا أخذنا من البلاد التي غلبنا الغز أضعاف ما كانوا يأخذون منها».
المُجرم إسماعيل بن القاسم – ثالث أئمة الدولة القاسمية – كان أكثر أئمة الزيدية قسوةً وفجورًا، كفّر الشوافع، وجعل أراضيهم خراجية حكمها كحكم أراضي خيبر، وقال: «اليمن – يقصد المناطق الوسطى والجنوبية – أرض خراجية استفتحناها بسيوفنا»، وأجاز – تبعًا لذلك – نهبها، والبسط عليها، وعزز فتواه بمطالب ضريبية استنفذت جميع أموال رعاياها، ومدخراتهم، وحين أرسل إليه أحد عماله يسأله: «هل يؤاخذنا الله فيما نفعله بحق هؤلاء..؟!»، كان جوابه: «لا يؤخذني الله إلا فيما أبقيت لهم!!»، وأضاف: «إذا استطعت أن تلتص على أخذ نصف أموالهم فافعل، ولكن بصورة لا تنفر، فاليمن أرض خراجية!».
والخراج المذكور في تلك الفتوى، هو كما قال عنه فقهاء الشريعة: نوع من الضرائب التي تُفرض على الأراضي الزراعية التي فتحها المسلمون عنوة، فملكوها، وصالحوا أهلها على أنْ يتركوهم فيها بخراج معلوم يؤدونه إلى بيت مال المسلمين، ومقدار الخراج ربع المحصول، وأوصله الأئمة إلى 40% أو 50%، وعن ذلك الظلم قال الحسين بن عبدالقادر:
قالوا إمامهم إسماعيل عالمهم
أفتاهم بمقال فيه برهانُ
يقول أنَّ جنود الترك كافرة
دانت لهم من جميع القطر بلدانُ
وبعدهم قد ملكناها بقوتنا
صارت إلينا حلال بعدما بانوا
أصولنا تقتضي هذا فلا حرج
بما أخذنا، ولا والقول بهتانُ
وكل شخص من الزراع عاملنا
على الذي بيديه أينما كانوا
في إطار حديثه عن تلك الحقبة المُظلمة قال العلامة صالح المقبلي في كتابه «العلم الشَّامخ»: «قالوا قد كانت الكلمةُ للجبر والتشبيه، وهما كفرٌ، فالدَّار دارُ كفرٍ اسْتفتحناها بسُيوفنا، فنصنع ما شِئنا، كخيبرَ ونحوها، حتى روى لي من لا أتهمُه أنَّ رجلا هو أفضلهم وصَّى عاملَهم أن يتحيَّلَ في الأخذ إلى قدر النصف، كأنَّها مُعاملة؛ ولكن على وجه لا يُنفر، وكان الوالي على اليمن الأسفل، تعز وإب وجبلة وحيس وسائر تهامة يقول لهم فيما يبلغنا إذا شَكوا الجور: لا يؤاخذني الله إلا فيما أبقيت لكم!».
بعد هذه الفتاوى المُستمدة أصلًا من موروث الأجداد، صار عمال الإمام يأخذون الزكاة من الشوافع ارتجالاً وبالتخمين، وكانوا أيضًا يأخذونها قبل الحصاد، وذلك بنهب ما يدخره الرعية للمُستقبل، حتى المواشي لم تسلم من أذيتهم، أحرموها من الأعلاف بأخذ زكاة المُتبقي، وغالبًا ما كانت تعصف تلك الجبايات بأكثر من ثُلثي المحصول، وأحيانًا كُله، وما تم جمعه يخزن في مخازن الإمام، ومدافنه الخاصة دون أنْ يتم توزيعها على مَصارف الزكاة المعروفة، والمنصوص عليها في كتاب الله تعالى.
غير الزكاة والخراج أوجد الأئمة – وخاصة المُتوكل إسماعيل – مطالب ضريبية ما أنزل الله بها من سلطان، وبمسميات مختلفة، نذكر منها: مطلب التنباق (التبغ)، ومطلب الرباح (الربح)، ومطلب الرصاص والبارود، ومطلب سفرة الوالي، ومطلب العيد، ومعونة الجهاد التي جعلها ذات الإمام مالًا حقًا مُستحقًا، ودينًا لازمًا، ومطلبة التبن لمن شرم أو لم يشرم، ومطلب الصلاة، حيث كان العساكر يلاحقون تاركي الصلاة، ويفرضون عليهم عُقوبات مالية يستصفونها لهم، حتى المواظبين عليها لم يسلموا من ذلك، ألزموا بدفع مبلغ مالي لإمام المسجد الذي غالبًا ما يكون من سلالة العلويين، وفي المناطق الريفية كان التلم العاشر في الجربة له.
الأسواق أيضاً كان يؤخذ عليها رسوم، وقد كُتب في عهد المُتوكل إسماعيل قانون مُلزم في ذات الجانب، وحدد الأرباح والآداب على المـُخالفين، وفرض رسوم معينة على كل سِلعة، وعلى أصحاب المهن أيضاً تحت مُسمى «جرم الحرس»، وتُعطى لشيخ الحراس، وشيخ السوق، وشيخ الشرطة، وفي عهد المُتوكل القاسم بن الحسين أضافوا إلى ذلك القانون بعض الرسوم، أهمها رسوم القاري (عربة النفايات)، وأصبحت تسمى قواري، وجرم، واستمر التعامل به إلى عهد الناصر أحمد يحيى حميد الدين.
وبالعودة إلى ذكر المُتوكل إسماعيل، فقد حدثت في عهده أكثر من 30 هزة أرضية، تضررت منها مدينة ضوران – مقر إقامته، وارتعب منها الناس، وظنوا قُرب قيام الساعة، وعدَّها كثيرون انتقاما ربانيا للظلم الذي طال الرعية الشوافع؛ بل أنَّ أحد أبناء المُتوكل إسماعيل اعتقد ذلك، وهو ما أكده المُؤرخ أبو طالب بقوله: «وظن مولانا محمد بن المُتوكل أنَّ سببها ما يؤخذ من أهل اليمن الأسفل زائدًا على الزكاة».
كانت السنوات الثمان الأخيرة من حكم المُتوكل إسماعيل عصيبة، عمت المجاعة، وارتفعت الأسعار، وانتشرت الأمراض، والموت الجماعي، في الوقت الذي كانت فيه مدافن ضوران ملأى بالحبوب، وهنا ينقل صاحب «بهجة الزمن» تعجب يحيى جباري قاضي الإمام من ذلك، وذلك بعد وفاة الأخير، ونقل قوله: «ما كنت أظنُّ أنَّ في خزائن الإمام هذه الممالك، فما الوجه للمطالب والجور في اليمن الأسفل».
والأسوأ مما سبق أنَّ تصرفات هذا الإمام الإفقارية صارت سلوكًا مُريعًا لازم غالبية الأئمة المـُستبدين من بعده، وهذا المهدي محمد بن أحمد «صاحب المواهب» استحدث مطالب ضريبية أخرى يطول شرحها، نذكر منها مثالًا لا حصرًا: رسوم العوض، ويُلزم بدفعها من لا يرغبون المـُشاركة في حروبه العبثية، ورسوم مقررات الجند، ورسوم الضيافة، ورسوم الغرامات.
قال العلامة الشوكاني عن هذا الإمام بأنَّه كان يأخذ المال من الرعايا بلا تقدير، وينفقه بلا تقدير، ومن حله، ومن غير حله، وذكر القاضي الأكوع في كتابه «الأمثال اليمانية» أنَّ خازن بيت المال قال لذات الإمام أنَّه وضع أموال الجزية التي يحق لصاحب المواهب أنْ يأكل منها في مكان خاص، ومُنفردة عن أموال الزكاة المـُحرم عليه أكلها، والانتفاع منها كما نصت فتوى الخُمس العُنصرية، فأجابه الإمام: «اخلط يا فقيه كُله حَقّنا»!