أسماء كثيرة، لمُقاتلين عِظام، لمعت وذاع صيتها في يوميات ثورة الزرانيق الخالدة، كان أحمد فتيني جنيد أبرزها، الشيخ الثائر الذي قاد تلك الثورة باقتدار لافت، وبسالة مُنقطعة النظير، ونكل وأبطالها الأشاوس بعساكر الإمام يحيى حميد الدين، وكان بشهادة كثيرين شجاعًا، مُطاعًا، مُهابًا، طموحًا، ذا نزعة استقلالية، لا يخاف في سبيل تحقيق مآربه لومة لائم.
أحمد بن أحمد فتيني هبة جنيد، المولود في قرية الطائف الساحلية 1889م، التابعة أصلًا لمدينة بيت الفقيه، لم يكن من أسرة مشيخية، فأبوه كان صيادًا مغمورًا، وأسرته كانت في الدرك الأسفل من خط الفقر، وهي المُعضلة التي تجاوزها بطلنا العصامي بعزيمة لا تُقهر، واحتك بالأجانب من خلال رحلاته عبر البحر الأحمر، وأتقن اللغة الإنجليزية، والفرنسية، وكون من خلال اشتغاله بالتجارة ثورة هائلة، وامتلك اسطولًا من السفن (سواعي، وزوارق شراعية)، وشيد عدد من القلاع، واشترى ترسانة من الأسلحة (بنادق موزر, ومدافع، وذخائر)، وعني بتخزينها استعدادًا لأي طارئ.
ومع مرور الوقت بدأت مقدراته القيادية بالبروز، وسعى جاهدًا لتقوية نفوذه في الداخل الزرنوقي، على حساب المشايخ التقليديين، واستقطب بتواضعه الجم عددًا كبيرًا من أبناء قبيلته، وكون مشيخة كبيرة، ونال - كما قيل - لقب شيخ مشايخ تلك القبيلة، وسعى لتأسيس إمارة تهامية مُستقلة، ومهد لذلك بتأسيس جيش قوي، تكفل بدفع مُرتبات أفراده، وتجهيزه التجهيز اللازم.
ملجأ الثوار
بعد حرب مُتقطعة بينه وبين الأدارسة استمرت لأكثر من 13 عامًا، اجتاحت قوات الإمام يحيى تهامة من أربعة محاور مارس 1925م، فصلت شمال تهامة عن جنوبها، وتمكنت خلال 15 يومًا من السيطرة على معظم مناطقها، وذلك من تخوم بيت الفقيه جنوبًا، حتى اللحية شمالًا.
أخذت المُقاومة التهامية في ظل تلك الظروف العصيبة تتشكل، وكانت العبسية أولى القبائل تمردًا؛ بل أنَّها - كما أفاد المُؤرخ محمد الأهدل - تَصدت للهُجوم الإمامي في لحظاته الأولى، صحيح أنَّ ذات المُؤرخ لم يتوسع في ذكر تفاصيل ذلك، إلا أنَّه تحدث بإسهاب عن تلك الانتفاضة، التي انطلقت شرارتها والتواجد الإمامي في شهره الثالث يونيو 1925م.
وحسب ذات المُؤرخ أنَّ الثوار طلبوا المُساندة من الشيخ أحمد فتيني، وأنَّ الأخير أمدهم بالعدة والعتاد، وأحد المدافع، وبعض الأفراد، فيما التزم غالبية مشايخ القبائل المُجاورة الحياد، وقام بعضهم - وهو الأسوأ - بِمُساندة الإماميين؛ الأمر الذي أجبر الثوار بعد خمسة أشهر من الصمود على رفع راية الاستسلام.
أخذت العمليات العسكرية الإمامية طابع الأرض المحروقة، وكم من منازل نُهبت، وقرى دُمرت، وعن تلك الجرائم المُروعة، قال المُؤرخ إسماعيل الوشلي: «فأثخنوا - أي العساكر الإماميين - فيهم قتلًا، ونهبًا، وإحراقًا لقراهم، فتفرق أهلها فارين في بلاد الزرانيق».
شخصية جامعة
بعد أنْ فشلت جميع مُحاولاته في السيطرة على قبيلة الزرانيق سلمًا، لجأ الإمام يحيى إلى القوة، وأصدر أوامره للأمير عبدالله الوزير بتولي هذه المهمة، فأرسل الأخير ابن عمه محمد الوزير إلى تلك الناحية بقوات جمة سبتمبر 1925م، وقد أجبر أبناء الزرانيق ذلك القائد على المُغادرة، بعد معركة دموية جعلت إمام صنعاء يُصدر أوامره لأمير الحديدة بعدم التعرض لهم.
الإمام يحيى المشغول حينها بتثبيت دعائم حكمه، أجل السيطرة على الزرانيق إلى حين، ومهد لذلك بتحريض القبائل المُجاورة الخاضعة لحكمه للقيام ببعض التحرشات في حق أبناء تلك القبيلة، لإنهاكهم، وجعلهم لقمة سائغة لقواته المُتحفزة، إلا أنَّ ظهور الشيخ أحمد فتيني كشخصية كاريزمية جامعة، إلى جانب باقي مشايخ تهامة، أفشل - كما أفاد المُؤرخ عبدالودود مقشر - ذلك المُخطط.
بعد مرور شهرين من تلك المعركة، قامت القوات الإمامية بميناء الصليف بالقرصنة على أحد المراكب الشراعية الزرنوقية، واختطفت طاقمه، وأودعتهم السجن، وقام الشيخ أحمد فتيني إثر ذلك بكتابة رسالة لحسن كانجوني الكاتب السياسي الإنجليزي في مدينة الحديدة 28 نوفمبر 1925م، أبلغه فيها نيته اللجوء لفعل مُضاد، إلا أنَّ المُفوض العام لجزيرة كمران حذره من ذلك، وأوصل تهديده في المُقابل إلى نائب الإمام في الحديدة.
لم تحصل خلال العامين التاليين حوادث مُتصله، حتى قام أبناء الزرانيق بثورتهم مطلع عام 1928م، والتي استهلوها بالقيام بعدة عمليات هجومية على الثكنات العسكرية القريبة، وعن تلك الثورة وقائدها قال المُؤرخ الإمامي حسن الإرياني: « فنتج منهم كثرة التعدي، وإخافة الطرق برًا وبحرًا، وخرجوا إلى طول العدوان الرذيل، وصار الشيخ أحمد فتيني مُهيجًا لهم، ومأوى ودلّس ولبّس عليهم أنَّه في ذلك القطر مستعد بمدافعه النارية وآلاته لمنع كل من يحاول الاستيلاء عليهم، ولم يزل الرجل المذكور يرتفع شأنه، وتنمو أمواله، حتى طلب ما ليس له، وتابعته مُعظم القبائل المحاددة لبلاد الزرانيق، وبعضها كانت قد دخلت في الطاعة كقبيلة الجحبى».
وكان ذات المُؤرخ قد قال في إطار استعراضه التمهيدي لقبائل الزرانيق عن قائد تلك الثورة: «والجم المُغفر من الزرانيق ينقادون للطاغية الأكبر أحمد فتيني جنيد»، وأضاف مُتحاملًا، ومُشنعًا: «وكان في ابتداء أمره لصًا من اللصوص، باشر تلك الوظيفة القبيحة حتى بلغ به الحال إلى سفك الدماء، والشغب».
ما أنْ وصلت أيادي الثوار إلى الحديدة، وتمكنوا من إبادة حامية عسكرية بكاملها، وذلك في القرب من قرية المنظر المُجاورة لذات المدينة أبريل 1928م، حتى أدرك السيف محمد بن الإمام يحيى - الذي عُين قبل شهرين أميرًا للحديدة - خطورتهم، فقام أولًا بجس نبضهم، وذلك بتوجيه بعض الحملات العسكرية لأطراف قبيلتهم، واستمالة بعض عشائرهم، وقد دخلت بالفعل قبيلة الجحبى مُؤقتًا في سلك طاعته.
ولتعزيز حضور دولة والده في مناطق الأطراف الزرنوقية، عَين هاشم المحويتي عاملًا على الدريهمي، المنطقة التي تقع قبيلة الجحبى في إطارها، وحين أحس أبناء الأخيرة بوطأة ذلك العامل وعساكره؛ ثاروا بتأييد كامل من قبل الشيخ أحمد فتيني، وهجموا على مقر ذلك العامل، وأجبروه على المُغادرة.
ما أنْ عاد هاشم المحويتي إلى السيف محمد طريدًا، حتى كلفه بالعودة إلى مقر عمله، وعززه بقوات كثيرة، وفي قرية قضبة الساحلية، حدثت المُواجهة، وتمكن ثوار الزرانيق من التصدي لتلك الحملة، وقتلوا أكثر من 400 من أفرادها، ومعهم قائدها، وأسروا كثيرين، فيما تجاوزت خسارتهم الـ 100 قتيل.
توافد بعد تلك المعركة أبناء الزرانيق من الدريهمي إلى الحسينية، وأجمعوا - كما أفاد المُؤرخ الأهدل - على أنْ يكون الشيخ أحمد فتيني قائدًا لهم. وكان الأخير بحق قائدًا مُحنكًا للثورة الزرنوقية، ولم يرضخ حينها وخلال السنوات الماضية للإغراءات الإمامية، ورفض قرار تعيينه حاكمًا لقبيلته باسم تلك الدولة الغاشمة.
بدأت أمام ذلك الوضع المُربك المفاوضات بين الجانبين، وقد تم التمهيد لذلك - كما أفادت وثائق وزارة الخارجية السوفيتية - بتوقيع اتفاق سلام (ربما المقصود هدنة) 15 يونيو 1928م، ليقوم الإمام يحيى بإرسال وفده المفاوض برئاسة القاضي محمد الحجري، وقد باءت جهود الأخير بالفشل، وعاد بأوامر من الإمام إلى الحديدة خائبًا 31 أغسطس 1928م.
وفي ذات السياق التفاوضي، ذكر المُتصرف يوسف بك حسن في مُذكراته أنَّ أبناء الزرانيق صارحوا لجنة الوساطة بموافقتهم على تسليم الزكاة والأعشار لدولة الإمامة، واشترطوا عدم دخول قوات تلك الدولة بلادهم. وذكرت إحدى الوثائق الإنجليزية أنَّ الشيخ أحمد فتيني أرسل مع لجنة الوساطة الإمامية بردٍ قاسٍ، مليء بالتهكم والسخرية، وأنه أتبع ذلك بالهجوم على الثكنات الإمامية في المنصورية.
وبين هذا القول وذاك، تبقى الحقيقة المُؤكدة أنَّ المُفاوضات فشلت، وأنَّ الإمام يحيى أصدر أوامره لولده محمد، ولعماله على زبيد، ووصاب، وريمة بالهجوم الشامل على الزرانيق، في وقت واحد، ومن أكثر من اتجاه.
وفي الوقت الذي تحركت فيه قوات إمامية من جهة زبيد صوب الحسينية، تحركت قوات أخرى من جهة ريمة صوب الصعيد، ومن جهة الحديدة تحركت قوتان، قوة بقيادة إسماعيل المروني صوب الدريهمي، وأخرى بقيادة القاضي أحمد بن قيس، والأخير كانت وجهته مدينة بيت الفقيه، إلا أنَّه لقي في سائلة الجلة حتفه، قبل أنْ يكمل مهمته.
وكانت خلاصة هذه الجولة التي استمرت لعدة أيام إحكام حصار الزرانيق من الشمال، والشرق، والجنوب، والسيطرة مُؤقتًا على الدريهمي، والحسينية، بالإضافة إلى عدد من القرى المُتناثرة، وهو ما أكده المُؤرخ الإرياني بقوله: «وجرت حروب شهيرة نتيجتها الاستحكام على بعض البلاد، كالدريهمي وغيرها، بعد أنْ حل القتل الذريع بالمُخالفين، وطردهم إلى الشعاب، وعرضت بعد ذلك حوادث وكوارث ثبطت القواد عن المعركة».
والحوادث والكوارث التي عناها المُؤرخ الإرياني، وثبطت القادة الإماميين عن إكمال مهماتهم، تمثلت في مضمونها الأشمل بمعركة سائلة الجلة التي لقي فيها القائد أحمد بن قيس وهو وعدد كبير من مقاتليه حتفهم، وهي المعركة التي أجبرت الإمام يحيى على الاستنجاد بولده أمير حجة السيف أحمد، وإرساله لإخماد تلك الثورة، وتأديب من أشعلوا فتيلها.
حق تقرير المصير
قاد السيف أحمد بأوامر من والده مُقاتلي القبائل الشمالية صـوب تهـامـة 20 سبتمبر 1928م، ليبدأ بعد 19 يومًا بالهجوم الشامل، ومن أكثر اتجاه، قوات تسللت من المراوعة صوب الدريهمي، وقوات تسللت من السُخنة صوب المنصورية، وقوات تسللت من وصاب صوب القصرة، وقوات تسللت من ريمة صوب الصعيد، وقوات تسللت من زبيد صوب الحسينية.
كانت قوات المحور الشمالي الغربي التي يتواجد في صفوفها القائد العام السيف أحمد الأكثر عددًا وعدة، وقد حققت بادئ الأمر انتصارات خاطفة، وتمكنت من السيطرة على ميناء الطائف، وذلك بعد معارك شرسة قادها من الجانب المهاجم عبدالله الضمين، ومن الجانب المقاوم الشيخ أحمد فتيني، وروي أنَّ الأخير كان يمضغ القات قبل إحدى المعارك، وبدلًا من أنْ يتحرك للمُواجهة، طلب من المرافق التابع له أنْ يُعمر نارجيلة التنمباك المنصوبة بدلًا عن المدفع، قائلًا: «عمر، وطنبش».
سقط في تلك المواجهات قتلى كُثر من الجانبين، حددهم أحد شهود العيان بأكثر من 1,000 قتيل إمامي، وأكثر من 400 قتيل زرنوقي، وعن هذه الجولة قال المُؤرخ الإرياني: «ثم زحف الجيش إلى وادي الطائف المحتوي على ما لا يُحصى من النخيل، وما كان إلا بضع ساعة فاحتلت الجيوش مركز بالطائف، وقبضت القوة الفتينية، وغنمت الغنائم الواسعة..».
من جانبه تحدث المُؤرخ مقشر عن حدوث خيانة في صفوف المقاومين، لافتًا أنَّ الأخيرين انسحبوا جراء ذلك تكتيكيًا إلى الجُزر المجاورة، وأنَّهم جعلوا تلك الجزر قاعدة للتمويل المُستمر، والهجمات الخاطفة. في حين انسحب آخرون إلى مدينة بيت الفقيه، وميناء غليفقة، وكان لهؤلاء المُقاتلين وغيرهم في باقي المحاور دور في إطالة أمد المُواجهات، وتحويلها إلى حرب عصابات، كلفت الطرف الإمامي وعلى مدى 11 شهرًا الكثير.
شددت القوات الإمامية خلال هذه الجولة حصارها على قبيلة الزرانيق، ومن ثلاثة اتجاهات، فيما كرس القائد العام جهوده على إكمال حلقات ذلك الحصار، فالدعم الإنجليزي - كما يعتقد - يصل للثوار من جهة البحر، وهو الأمر الذي حفزه للسيطرة على الشريط الساحلي الذي يربط شمال تلك القبيلة بجنوبها، في خطة مُغايرة لمن سبقه، مبتدئًا - كما سبق أنْ ذكرنا - بالسيطرة على الطائف، وتشييد عدد من التحصينات بالقرب من تلك القرية، واستحداث إضافات في قلعتها الشهيرة.
على الرغم من سقوط ميناء الطائف، إلا أنَّ زخم المُقاومة الزرنوقية لم يتوقف، فقد ظل ميناء غليفقة القريب منه يمد المقاومين بالدعم اللازم، استغل السيف أحمد إهمال الزرانيق تحصينه؛ وأرسل إسماعيل المروني بقوات كثيرة للسيطرة عليه، وقد تسنى لتلك القوات ذلك 22 نوفمبر 1928م، بعد أنْ جعلته ضربات المدفعية قاعًا صفصفا.
وهكذا، وبعد 42 يومًا من بدء المُواجهات، تمكنت القوات الإمامية من السيطرة على ميناء غليفقة، وأتبعت ذلك بمُصادرة كل القوارب والسفن الشراعية، ومنعت أبناء تهامة الاقتراب من البحر، ودمرت قُراهم الساحلية، وأحرقت الأشجار والنباتات لمنع تواصلهم مع أقرانهم في الجزر، وصادرت أموال ومُمتلكات عدد كبير منهم، كان الشيخ أحمد فتيني أبرزهم.
بسقوط ميناء غليفقة فقدت الثورة الزرنوقية إلى حدٍ ما زخمها؛ وهو الأمر الذي أجبر قائدها الشيخ أحمد فتيني على الالتجاء بالمعسكر الإنجليزي في جزيرة كمران، وطالب الأخيرين بدعم قبيلته في نضالها ضد الإمام يحيى، وأعوانه، وطالب أيضًا بحق تقرير المصير، وناشد عصبة الأمم التدخل لإنهاء ذلك الصراع. وكثرت حينها الإشاعات عن الرجل، وعن هذه الجزئية قال المُؤرخ الإمامي أحمد الوزير: «وكثرت الإشاعات حول تعاون الإنجليز مع الشيخ أحمد الفتيني، حتى قيل: أنَّ بريطانيا طلبت من الشيخ المذكور قاعدة جوية لها».
وما يجدر ذكره أنَّ الشيخ أحمد فتيني سبق أنْ تحالف قبل 16 عامًا مع الإيطاليين يونيو 1912م، وذلك أثناء حربهم مع العثمانيين، ومُحاصرتهم للسواحل اليمنية، وهو التصرف الذي حمى من خلاله ميناء الطائف من ذلك الحصار، وإكمالًا لهذه الجزئية قال جون بولدري: «لكنه - يقصد الشيخ فتيني - ما إنْ انفلت من طائلة الحصار، حتى تلاعب بالإيطاليين لحسابه، فأرسل حمولات من دقيق القمح، والأرز، والسكر إلى تجار الحديدة، وبيت الفقيه، وزبيد الخاضعات لحكم العثمانيين».
أمام التصرف الفتيني السابق ذكره؛ صار جميع ثوار الزرانيق - من وجهة نظر الإماميين - بلا استثناء عملاء للإنجليز، وراحت السلطات الإمامية تُشنع عليهم، وتحتقرهم بأقذع الصفات، رغم أنَّهم سبق أنْ ثاروا قبل سبع سنوات ضد الإنجليز، وكانوا سبب خروج الأخيرين من الحديدة 21 مارس 1921م.
استبعد عبدالله البردوني تلك التهمة عن أبطال الزرانيق، وأضاف: «فمن الجائز أنْ يكون الفتيني مُتآمرًا، أو مُستعينًا بالإنجليز، لغياب أي نصير». وغير بعيد قال تشرشل: «لا يضرنا الاستعانة ولو بالشيطان»، والغريق في النهاية لا تهمه جنسية من ينقذه.
مقومات الصمود
ما أنْ سقط ميناء غليفقة حتى بدأ الزرانيق بِحربهم الاستنزافية، وقاموا بعد يوم واحد من سقوط ذلك الميناء بمُحاولة فاشلة لاستعادته، ثم أتبعوها بمُحاولة أخرى فاشلة لاستعادة ميناء الطائف، الأخيرة هي الأهم؛ فقد أجبروا - كما أفاد المُؤرخ مقشر - السيف أحمد على مُغادرة ذلك الميناء، بعد أنْ كاد يقع في أيديهم.
حتى تلك اللحظة لم تكن القوات الإمامية قد أحكمت حصار الزرانيق، فما يزال وادي الجاح الغني بأشجار النخيل، والممتد من الصحراء إلى البحر عصيًا عن السقوط، ولإكمال حلقات ذلك الحصار قاد السيف أحمد هجومًا شاملًا على ذلك الوادي 7 ديسمبر 1928م، وتمكن بالفعل من السيطرة عليه دون قتال، مُستغلًا انتهاء موسم جني النخيل، وذهاب مواطنيه للتسوق في الحسينية، ولخص المُؤرخ مقشر تداعيات ذلك المشهد بالقول: «فما أسهل الدخول، وما أصعب تثبيت الاحتلال في نطاق جغرافي كل ما فيها معادي للمُسيطر، حتى السماء، والهواء، والماء».
سقط وادي الجاح، إلا أنَّ عزيمة أبطال الزرانيق لم تسقط، استمر أولئك الأبطال بحرب العصابات، وقاموا بعدة عمليات هجومية، استنزفوا من خلالها الإماميين بشريًا، وماديًا، بمساندة مائزة من قبل الشيخ أحمد فتيني، الذي اتخذ من الجزر المجاورة مقرًا لعملياته، وقاد بعض تلك المعارك - سنأتي على ذكرها - بنفسه.
عاش في المقابل السيف أحمد لحظات عصيبة، وهو المُستبد الذي لم يركن حتى لاستشارة أقرب مُعاونيه، والمُتكبر العنيد الذي لم يستسلم لليأس، أطلق صيحته الشهيرة (الجاح)، مُتبرمًا من الحال الذي وصل إليه، شاكيًا بالزرانيق بشرًا، وجغرافيا، الذين فتكوا هم والأوبئة بالمئات من مُقاتليه، طالبًا المدد والنُصرة، وهي - أي الجاح - قصيدة أحمدية طويلة، قال في مطلعها:
صاح أنَّ الجاح قد أضنى فؤادي
وكســـــا عيــني بأنـواع السـهاد
قام الشيخ أحمد فتيني بعملية هجومية إنقاذية من جهة البحر 18 أبريل 1949م، وكان ساحل الكويزي الواقع بين مينائي الطائف، وغليفقة ميدانها، التقاه هناك عدد من المُقاومين، وقاموا تحت قيادته - كما أفاد سليمان الأهدل - بالهجوم على القوات الإمامية المُرابطة في عين الضبي، وأفنوها، وأفنوا أيضًا قوات ثانية مُرابطة بالقرب منها، فيما تمكنت قوات ثالثة وأخيرة من التصدي لهم، وكانت حصيلة قتلاهم 15 فردًا.
قلل المُؤرخ الإرياني كعادته من بطولات ثوار الزرانيق، وأدلى برواية أحادية مُتصلة، مفادها: «كان خروج بغاة الزرانيق إلى ساحل الكويزي لتلقي الطاغية أحمد فتيني، والفتك بالمُجاهدين المرتبين هناك، والهجوم على مركز الطائف، فأحس بهم المجاهدون، وقامت الحرب على ساق، وجرت معركة كان النصر للجيش»، وأفاد أنَّ عدد قتلى الزرانيق وصل إلى نحو 113 قتيلًا، وأنَّ عدد قتلى القوات الإمامية وصل إلى «نحو تسعة عشر نفرًا لا غير».
وأكد ذات المُؤرخ أنَّ السيف أحمد كان قد خرج بداية ذات الشهر إلى ساحل الكويزي لإفشال التقاء الشيخ أحمد فتيني بثوار الداخل الزرنوقي، ورتب قواته في ذلك الساحل استعدادًا لأي طاري.
لم تتوقف مُحاولات الشيخ أحمد فتيني في استعادة ميناء الطائف خلال تلك الفترة، وتفردت صحيفة (الشورى) المصرية نقلًا عن مُراسلها في عدن في ذكر تفاصيل هجوم قام به ذات الشيخ على ذات الميناء، في الشهر التالي، وأفاد ذات المراسل أنَّ القوات الإمامية تمكنت من صد ذلك الهجوم، دون أنْ يتوسع أكثر في نقل تفاصيله.
نهاية بطل
مضى الشتاء بجوه الساخن، وحلّ الصيف بجوه الأسخن، وما أنْ أدرك السيف أحمد استحالة تجاوز متاهة وادي الجاح المُنهكة، حتى يمم خُطاه عبر الساحل جنوبًا، صوب مدينة زبيد هذه المرة 9 أبريل 1929م، وهناك كثَّف من استعداداته لجولة أخرى، وتوجه بعد مرور أسبوعين إلى قرية الصعيد، مقر قبيلة المعازبة، والمُطلة على مدينة بيت الفقيه من جهة الشرق، جاعلًا منها نقطة انطلاق هذه الجولة، التي أرادها أنْ تكون حاسمة.
بعد عدة معارك خاضها، أدرك السيف أحمد استحالة تحقيق نصر نهائي من هذه الجهة؛ توجه إلى قرية المحوى، الواقعة شمال مدينة بيت الفقيه، سيطر على جبل قحمة المُطل على قبيلة المجاملة، وانتقم من تلك القبيلة، وتعرض في قرية القوقر لهزيمة ماحقة 6 مايو 1929م.
أجلت معركة القوقر سقوط مدينة بيت الفقيه لأكثر من أربعة أشهر، انسحب على إثرها السيف أحمد إلى جبل قحمة، آخذًا رهائن من أفراد جيشه الذين خذلوه في تلك المعركة، وما هي إلا عدة أيام حتى عاد أدراجه إلى قرية الصعيد، الجهة التي أراد منها السيطرة على عاصمة الزرانيق، وهو ما كان، بعد معارك شرسة يطول الغوص في تفاصيلها.
سقطت مدينة بيت الفقيه 25 سبتمبر 1929م، وما كان لها أنْ تسقط؛ لولا الحصار المُطبق الذي استمر لشهور، والدعاية الإمامية المُكثفة التي عملت على تضخيم السيف أحمد، بإشاعة أنَّ الرصاص لا يخترق جسده، وأنَّ الجن ينقادوا له، وتمثل السبب الأبرز بالجواسيس الذين خذلوا بني قبيلتهم، ودخول بعض المشايخ من آل منصر وغيرهم في طاعته، وهو التصرف الذي كان كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
توجه الشيخ أحمد فتيني على إثر فشل الثورة الزرنوقية بأهله إلى مدينة جيزان، وساند ومجاميع من أبناء قبيلته وقبائل تهامية أخرى القوات السعودية أثناء إخمادها لثورة الحسن الإدريسي نوفمبر 1932م؛ وساند وغيره من مشايخ تهامة القوات السعودية في حربها ضد قوات الإمام يحيى أبريل - مايو 1934م، والتي انتهت بسيطرة تلك القوات على المناطق التهامية، وصولًا إلى تخوم مدينة زبيد.
وما يجدر ذكره أنَّ أبناء تهامة تعاملوا خلال السنوات الماضية مع الإماميين كمُحتلين، وقاموا بعدة انتفاضات ضد ذلك التواجد، وبدلًا من أنْ يقوم الإمام يحيى بِكسبهم إلى صفه، تعامل معهم بمناطقية وعنصرية فجة، واعتبر أموالهم غنيمة. حتى أولئك المشايخ الذين سهلوا له احتلال بلادهم، أقصاهم، ونكل بهم، وصادر أسلحتهم؛ فما كان منهم إلا أنْ ارتموا نكاية به في أحضان آل سعود.
بعد سيطرتها على مدينة الحديدة 4 مايو 1934م، واصلت القوات السعودية المُنتشية بالنصر تقدمها جنوبًا، وتجاوزت ميناء الطائف، وصولًا إلى مدينة بيت الفقيه، والأخيرة دخلها الشيخ أحمد فتيني وأصحابه دخول الفاتحين، وكان ثوارها قد مهدوا لذلك باقتحام سجن ذات المدينة، وقاموا - كما أفاد الـمُؤرخ محمد شبيلي - بإخراج أقرانهم منه، وطاردوا عاملها الإمامي إلى سفوح جبال ريمة، وقتلوا 12 فردًا من عساكره.
صحيح أنَّ معاهدة الطائف أوقفت تلك الحرب، إلا أنَّها لم تُنهِ الصراع، وعلى الرغم من أنَّها حوت في إحدى بنودها عفوًا عامًا عن كل الأعمال العدوانية السابق حدوثها، وعن كل الأفراد الذين انحازوا خلال الصراع لهذا الطرف أو ذاك، إلا أنَّ الجانب الإمامي لم يلتزم بذلك، وقد كان الشيخ أحمد فتيني ضحية هذا النكوث، حيث قامت الأيادي الغادرة - كما أفاد المُؤرخ مقشر - باغتياله في مدينة بيت الفقيه عن طريق السم 1936م، وبإشراف مُباشر من قبل السيف أحمد، وتم دفنه في تُربة الشيخ أحمد بن عجيل.
*26 سبتمبر.