بالرّغم من اقتفاء الزيدية أثر مدرسة الاعتزال، التي تُعلي من شأن العقل، وتتفق وإياها في مقولات العدل والتوحيد، إلا أن الملاحظ هو أن عوامل الصراع ازدادت حدَّة، فبدلاً من أن تفسح مقولات العدل، والحرية، وخلق الإنسان لأفعاله، مكانا متسعا لصناعة التوافقات، وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، وتعمل على البناء والعمران، فما حصل في اليمن كان أمراً مناقضا لكل ذلك، حيث ارتفعت معدلات الصراع، وتفاقمت المشاكل، وسعى فرقاء الساحة السياسية إلى استخدام التكفير والتفسيق بالتأويل مدخلا ومبررا لاستباحة الخصوم، بدلاً من تقريب وجهات النظر.
كما أن مقولات خلق الإنسان لأفعاله وهي مقولات تؤكد على حرية الإنسان، وتلزمه تحمّل مسؤولية ما يقوم به من أفعال، إلا أنها ساهمت في تحرير غريزة السطو، والغزو، والقتال، من أي عقال، وبينما يرى علماء التاريخ من المعاصرين أن أحد أسباب انهيار الحضارة العربية والإسلامية، يعود إلى محاربة أفكار المعتزلة، ومقولاتها في العدل والتوحيد، إلا أن تاريخ اليمن ربما يقف حائلا أمام هذه المقولات، ويكاد يهزها، بل ويسقطها.
لقد احتفظت اليمن، وتشبعّت بأفكار المعتزلة، وأطروحاتها الفكرية، والعقلية، لكن ذلك لم ينعكس إيجابا على واقع الحياة العملية، بحيث لا تكاد تجد في اليمن أي بناء، أو عمران، في المناطق التي انتشر فيها الفكر المعتزلي عبر الزيدية، بل على العكس من ذلك، فقد ضربت العديد من المراكز الحضرية، وتحولت مناطق الزراعة إلى فيافي وصحاري، وبسبب ما عززته تلك الأفكار، التي تستند على التأويل، وما وضعته من شروط حول من يستحق الإمامة، وأن شرطها الدعوة، والخروج بالسيف قد نتج عنه قيام العديد من الفتن والحروب، بين الدعاة والمتنافسين.
ونتيجة للحروب المتواصلة بين الخارجين والمطالبين بالإمامة، سواء مع خصومهم أو بين المتنافسين من أبناء البطنين، فقد زحفت البداوة على العديد من الأماكن الحضرية، والقرى والمناطق الزراعية، وبدلا من أن تعمل الأفكار التنويرية، والعقلانية التي تنطوي داخل بنية الزيدية، على نشر وتعميم قِيم التمدّن، والتحضّر، فإنها ساهمت بصورة مؤلمة على نشر قِيم البداوة وسلوكها، وذلك لأن الأفكار العقلانية توارت، واختفت عند التطبيق العملي، وتصدّرت مبادئ الخروج، والثورة، والأحقية بالحكم صدارة المشهد.
كانت راية الزيدية السياسية في اليمن أكثر إمكانية من غيرها من القوى اليمنية في تجديد ذاتها، والعودة إلى الظهور، والبروز على المسرح السياسي، وذلك عائد إلى هِجر العلم التي أنشأت وحافظت على بقاء "معتقداتهم أكثر تحصيناً من أي جهاز من أجهزة الدولة. لقد كان بإمكان جهازهم التعليمي الخاص إعادة إنتاج نفسه، إذا اقتضى الأمر، من بضعة مراكز متناثرة هنا وهناك" [بول دريش "الأئمة والقبائل: كتابة التاريخ وتمثيله في اليمن" ص231، "في كتاب اليمن كما يراه الآخر"].
ورغم الصراعات السياسية التي دارت بين دعاة المذاهب الساعين نحو السلطة، إلا أنه لم يرغم أي منتصر اتباع المذهب الآخر على ترك مذهبه، ولربّما أن حِدة الصراعات، والخلافات بين أتباع المذهب الواحد، كانت تفوق الخلافات مع اتباع المذهب المختلف.
فعلى سبيل المثال، فإنَّ الدولة الصليحية، التي سيطرت على اليمن بأكملها، لم تعمل على فرض مذهبها، أو تحارب المذاهب الأخرى، من ناحية دينية، أو فقهية، إلا ما كان بينها وبين القوى الأخرى من صراعات، تدور وتتمحور حول السلطة، فتركوا للآخرين حرية نشر مذاهبهم، فالملكة الصليحية السيدة الحرة بنت أحمد (ت 532هـ)، التي حكمت اليمن، قد أوقفت جزءا من مالها لطلبة أهل العلم، ودراسة صحيح البخاري ومسلم.
بل إن الصلحيين تركوا "لأهل السنة الحرية في نشر مذهبهم، والاستعانة بهم في تولي مناصب القضاء في كافة المناطق، التي دخلت تحت سيطرتهم في اليمن، أي أن السلطة الدينية في عهد الصليحيين كانت في يد أهل السنة، في حين كانت السلطة السياسية إسماعيلية" [د. محمد السروري "الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في عهد الدويلات المستقلة"، ص686].
كما أن الدولة الرسولية، ذات الاتجاه والانتماء الشافعي، اعتمدت على الصوفية في تثبيت دعائمها.
"بل وجدت التصوف هو أسهل الوسائل لبسط سياسة الدولة في أطرافها وحواضرها. ولهذا سعوا وبكل همّة لتهيئة ودعم المتصوّفة بكل أشكال الدعم. فهم ليسوا دولة صوفية، وإنّما هم دولة استفادوا من الصوفية استفادة كاملة اجتماعياً وسياسياً حتى إن آل رسول لم يدخلوا حضرموت سياسياً إلا بعد أن صار لهم هناك وجود: ولاءً ومحبةً من خلال التصوّف، حيث تولى المتصوفة الإشاعة بين الناس بوضع السيف وكسره ما دامت الدولة الرسولية تولي اهتماماً خاصاً بهم" [د.عبدالرحمن الشجاع "الاتجاهات الثقافية في عصر الدولة الرسولية" ص6، "بحث مقدم إلى مؤتمر تعز على مر العصور"، المنعقد في جامعة تعز 25 - 27 مايو 2009].
ولا يبعد عن هذا التوجّه ما قام به أئمة بيت القاسم منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، والذين سعوا لتقريب علماء اليمن المجتهدين إليهم، وذلك لأسباب سياسية، حيث لم يكن بإمكانهم الحفاظ على سلطتهم، بالاستناد على المذهب.
لكن الاختلاف الجوهري بين أدوار العلماء، والفقهاء في عهد الدولة القاسمية، عن غيرهم من العلماء، في عهد الصليحيين، أو الرسوليين، أنه برز منهم علماء مجددون، ومجتهدون، تجاوزا الانتماء المذهبي، وبادروا نحو صياغة وحدة فقهية في اليمن، تتجاوز عقدة المذهبية، فلم ينتموا إلى مذهب بل تحرروا من ذلك، وحرصوا على كسر احتكار النَّص الدِّيني، وربطه بجماعة، أو فئة، أو مذهب، أو حكومة، ومن أبرز أولئك شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني مجدد القرن الثالث عشر الهجري، الذي سعى لتحرير النص الديني، وعدم ربطه بمذهب محدد، ودعا المجتمع وأفراده إلى التحرر والبحث عن الدليل، ورفض التقليد، والتخلص من التبعية لهذا الفريق أو ذاك.
* موقع بلقيس.