الأقيال.. ما الأقيال؟!
"الأقياليّة" فكرةٌ تُنتج، حسبما يفهمُها اليمنيون المنتمون لهُوُيّتهم وتاريخهم، لا صنمًا يُعبد، حسبما يفهمه البعض من محدودي الفهم والثقافة، أو ممن فهمَ الفكرةَ وأراد حرفَ مسارها.
"الأقياليّة" فكرةٌ قديمة/ جديدة، لها امتدادُها الزمني بعمقه الحضاري، تعودُ إلى الماضي لتنطلقَ منه، لا لتغرقَ فيه. تستلهم الفكرة، ولا تتبنى ذاتَ الوسيلة. إنها ابنةُ المكانِ المتشح بكبرياء التاريخ، وسليلةُ الزمان الذي أفاقَ من نوم أزمنة..!
"الأقياليّة" روحٌ جمعيّة تسكنُ وجدانَ الشعب، وهُوّية وطنيّة تُلملمُ شتاتَ الأمّة. إنها فلسفةٌ في البناء وعقيدةٌ في الانتماء. صوتُ السّماء في أرضِ التوحيد الأولى، وقدرُ هذه الأمة منذ قحطان بن هود عليه السلام، وحتى آخرِ يمنيٍّ اليوم، يستمدُّ كينونته وذاته من هذا الامتداد التاريخي العريق، ولسان حاله:
لم تُرنّح مصباحَنا أيُّ ريحٍ دمُنا الزيتُ في دمِ المصباح
"الأقياليّة" عقيدة وطنية، لا تصادم المسلّماتِ الدينيّة أو تتنافى مع الحقائقِ التاريخيّة، تنتمي للوطن، كل الوطن بلا استثناء. وهل ثمة وطنٌ بلا عقيدةٍ وطنيّة؟!
للشُّعوبِ عقائدُها الوطنيّة، كما لها عقائدُها الدينيّة على حدٍ سواء، وإنَّ الانتقاصَ من عقائدِ الأوطانِ لا يقلُّ جُرمًا عن الانتقاصِ من قداسةِ الأديان. وهاتوا لي أمّة أو حضارةً من الحضارات الإنسانيّة بلا عقيدةٍ راسخةٍ في وعيها الجمعي..! لهذا كانت الملاحمُ الأدبية لأي أمة من الأمم أشبه ما تكون بالنصوص المقدسة في وعيها الجمعي؛ لا لذات النصوصِ هذه، فثمة نصوصٌ أخرى أكثر إبداعًا وشاعريّة منها؛ وإنما لأنّ هذه الشُّعوبَ أو تلك الأمم وجدت ذاتها الجمعيّة وروحها الحضاريّة بين ثنايا تلك السطور التي سطرها أديبُها أو شاعرُها، كما هو الشّأنُ في الإلياذة والأدويسا الإغريقيّة أو الشهنامة الفارسيّة أو ميم وزين الكرديّة، أو المهابهارتا الهنديّة أو "قوسار" الصينيّة.. إلخ. و "إلياذتُنا" اليمنية هي دامغةُ الهمداني سابقًا، وملحمة الإرياني حاليًّا، وبينهما عشراتُ الدوامغ والملاحم.
في هاتين السّرديتين يلمحُ اليمنيون ذاتَهم الحضاريّة، ويجدون خلالهما روحَهم الجمعية. وما الأقياليّةُ بفكرتها الحالية إلا شبّابة هذه الروح وباعثة ذلك المجد..!
"الأقياليّة" هي الفكرةُ السامية التي صَحتْ حين نام الجميع، وهي الصّوت الرخيم الذي علا حين انخفضت الأصوات، و هي ــ كذلك ــ "عوالي الزِّجَاج" النافذة التي ستضع حدًا قاطعًا للكهنوت الأرعن:
ومن يعصِ أطرافَ الزِّجَاج فإنه يطيعُ العوالي رُكبت كل لَهْذم
لا شيءَ يستثيرُ حماقةَ الكهانة الإماميّة كالعودة لأصولِ الذّات الجمعيّة، ولا فكرة تزلزلُ كيانه كفكرة "الأقياليّة"؛ النقيض الموضوعي لفكرة "الإمامة". ولا شيء يجعلك قويًّا كعدوٍ قوي..!
دعوها مُنىً واتركوها خيالا فما يعرفُ الحقُّ إلا النضالا
وماذا..؟!
يناوؤُنا الكهنوتُ الإماميُّ وجودَنا وذاتَنا الحضارية، ليحولنا إلى شخصيّة مستلبة، ولكن هيهات..! وحين عجز عن مقاومة مشروعنا حاول الالتفاف علينا، داعيًا إلى العقلنة والتعقل حد زعمه، ليبقى هو في طيشه وجنونه ونبقى نحن في تعقُّلنا..! ناسيًا أو متناسيًا حقيقة سياسية ووجودية تقول: إنَّ مَن صارَ مُتوازنًا مع المُعْوجّين فقد وقع في الاعوجاج..! وليكن بعلم الكهانة مستقبلا أيضًا: أنَّ ردَّ الفعلِ اللاسوي، تجاه تصرُّفٍ لا سَوي، هو موقف سوي..! وطنُنا أقدسُ ما لدينا، ولن نساومَ فيه.
لقد أدركنا قضيّتنا وإن كنا في بداية التجربة، وصرنا كبارًا وإن كنا في مقتبل العمر. لن نقعَ في أحابيلِ الكهانة كما وقع بعضُ رجالاتِ الرعيل الأول من الأحرار.
نحنُ هذي الأرض فيها نلتظي وهـيَ فينا عنفـوانٌ واقتتـال
مـن روابي لحمنا هذي الرُّبى من رُبى أعظُمنا هذي الجبال
ليكن بعلم الجميع ــ ونحن نُشَرّحُ "أقياليّتَنا" ونفصّلُ ماهيّتها ــ أننا لا نفتخرُ بأجدادنا لذواتهم كأناسي وبشر؛ بل لأنهم أسّسوا أولى الحضارات، وبنوا أول الناطحات، وسَنُّوا القوانين والتّشريعات.. لإنجازاتهم التاريخيّة، لا لأنسابهم العائلية، للأثرِ الملموسِ، لا للزيفِ المُدّعى. إنجازاتٍ مرقومةٍ على متون الصّخرِ، ومدوّنة بين بُطونِ الكتب.
هذه الأرضُ التي سرنا على صَهواتِ العـز فيها وأتينا
وملكـــنا فوقها أقـــــــدارنا
ونواصيـها فشئـنـا وأبينـا
أبدا
ًلن تنتهي فيها انتصاراتُنا إلا إذا نحــنُ انتهيـنــا.