قبل دخول المذاهب الفقهية إلى اليمن، كان بعض من مؤسسيها قد وصلوا إليها لأخذ العلم، وتلقيه على أيدي علمائها، وممن وصل إليها للتلقّي، والسماع، والقراءة من مؤسسي المذاهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي (مؤسس المذهب الشافعي)، والإمام أحمد بن حنبل (مؤسس المذهب الحنبلي).
كان لدخول اليمنيين الإسلام أن تحوّلت اليمن إلى "مدرسة أو مركز علمي تهوِي إليه أفئدة المتعلمين من شيوخ العلم أو من طلابه يأتون إليه من كل فج عميق، ليتلقوا من علمائه، ويستقوا مما فيه من معارف. فيأتي إليه العلماء وطلاب العلم من العراق والشام ومصر والمغرب والأندلس" [د.عبدالرحمن الشجاع- "تاريخ اليمن في الإسلام"، ص 238].
فشهدت المناطق اليمنية نهضة علمية ومعرفية كبرى، في سائر مدن اليمن الكبيرة حينها، "قادها رجال علم تخصصوا في علوم الإسلام المختلفة (علوم القرآن والحديث واللغة والتاريخ، وعلم الرجال، وعلم الكلام).
وكان اليمن واحدا من سبعة مراكز دوّن فيها العلم، فصنّف معمر بن راشد الأزدي البصري اليمني مصنّفه في علم الحديث.
استمرت حركة العلم بعد ذلك، وشهدت نشاطا في رواية العلم وكتابته، كما شهدت توالد أجيال من العلماء، بلغ عدد من أحصيته حتى الآن 229 عالماً، حتى نهاية القرن الثالث الهجري" [د. نزار عبداللطيف الحديثي- "عناصر القوة في الدور اليمني في التاريخ"، دراسة نُشرت على موقع الاشتراكي نت، بتأريخ 05 سبتمبر 2008].
وقد برز في اليمن، منذ النصف الأخير من القرن الثاني الهجري وحتى أواخر القرن الرابع، علماء مجتهدون، من أمثال المجتهد المطلق أبو قرة موسى بن طارق اللحجي، الذي تُوفي 203 هجرية، والذي "كان بكل تأكيد قد بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق.. ولعلّه جمع اجتهاداته هذه واختياراته في كتابيه الكبير والمبسوط" [د. عبدالرحمن الشجاع- "الحياة العلمية في اليمن خلال القرن الثالث والرابع الهجري"، ص 221]. والقاضي أبو سعيد مفضل الجندي تُوفي 337 هجرية، وقد كان قاضيا لعدن و"لم يُعرف عنه أنه كان يتبع مذهباً بعينه، مما يدل على أنه كان مجتهدا مطلقاً" ["المصدر السابق"، ص219].
في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، دخل إلى اليمن مذهبا الإسماعيلية والزيدية، الأول سنة 268 هجرية على يد منصور بن حوشب، الذي استقر في مسور حجة، وعلي بن الفضل الذي وصل إلى المناطق الجنوبية، لكنه سرعان ما استقل وخرج من المذهب، وبعد ذلك وصل المذهب الزيدي إلى اليمن على يد الإمام الهادي سنة 248 هجرية واستقر في صعدة، ومن هناك بدأ يتمدد.
وقبل وصول هذين المذهبين كان قد سبقهما المذهب الأباضي إلى الوجود في اليمن، وكانت حضرموت قاعدته، وذلك على يد الإمام طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي (ت 130هـ)، الذي استطاع أن يمد نفوذه ويسيطر على صنعاء سياسيا، وما حولها، وأن ينتشر تبعاً لذلك مذهب الأباضية حول صنعاء وخصوصا حجة، الذي استمر فيها حتى أواخر القرن السادس الهجري، إضافة الى تواجد المذهب الحنفي والمالكي، وكان الأول منتشرا بين صنعاء وصعدة، وقد تحقق له ذلك خلال تبعيّة اليمن للدولة العباسية، التي كانت تقوم بتعيين القضاة، وكانت الخلافة في عهد المهدي العباسي، والخليفة هارون الرشيد (توفي 193 هجرية)، قد وضعت أبا يوسف -صاحب الإمام أبي حنيفة- وتلميذه على رأس مؤسسة القضاء في بغداد، وبدوره كان يعيّن القضاة في الأمصار التابعة للخلافة، "ومن هنا نجد أن المذهب الحنفي كان منتشراً حكومة وشعباً، لأن طبقة القضاة الذين يتولون السلطة القضائية لا بُد أن يكونوا على المذهب الحنفي غالباً، ولم يتغلّب عليه -أواخر القرن الرابع وما بعده- إلا المذهب الزيدي" [د. عبدالرحمن الشجاع- "الحياة العلمية في اليمن خلال القرن الثالث والرابع الهجري"، ص 179]. وقد تم ذلك على يد المطرفية، بعد المناظرة التي جرت بين عالم صنعاء وفقيهها "النقوي"، وبين مطرف بن شهاب -مؤسس الفرقة المطرفية في اليمن.
تعتبر المنطقة التي تواجد فيها المذهب الزيدي، وبدأ منها انتشاره، شحيحة بالموارد الاقتصادية، ولم يكن بوسع دعاته أن يتحصلوا على موارد تساعدهم في تحقيق طموحاتهم في السلطة، وبسبب طبيعة الأرض المنتجة هناك المتميّزة بوعورتها وتضاريسها، فإن الجهد الذي يبذله السكان كبيرٌ في سبيل الحصول على ما يفي حاجتهم، فضلا عن عدم إمكانية تلك المناطق في تحقيق فائض يساعد على إقامة دولة تستند عليه، ومن هنا كان التمايز على أُسس مادية أمر بعيد المنال.
وفي بيئة طبيعية قاسية، وظروف جغرافية صعبة ظلت تتحدّى الإنسان، فإن فائض الإنتاج -كما يرى الدكتور حمود العودي- في اليمن "قليل بجهد كبير، وهو ما يعزز مساواة أكثر واستبداداً أقل".
وهذا بدوره دفع دعاة الإمامة نحو المبالغة في استثمار النسب والإرث النبوي، لكي يجدوا لهم موقعا ومكانة، داخل أرض، ومجتمع يتميّز بالندية، ويزدحم بالزعامات التي تستمد وجودها من داخل المجتمع.
ولكي تستمر الإمامة وأصحابها في الحفاظ على مواقعهم في اليمن، فإنهم سعوا لتجييش الوعي في الأوساط التي تواجدوا فيها من خلال تأويل النصوص، واحتكارها، وتطويعها بما يخدم طموحاتهم في السلطة السياسية، والمنزِلة الاجتماعية.
*موقع بلقيس