ما يحدث في اليمن هو جزء من تاريخه، ومن ثم فإن كل مجرياته في نهاية المطاف هي نتاج لما فيه، بما في ذلك سقوطه بيد مليشيا الحوثي السلاليه الكهنوتية وهو سقوط يمكن البحث عن قرائن له ومرادفات متنوعة ومختلفة في الماضي القريب والبعيد. وفيها يمكن رؤية أهميته وإثارته لشهية القوى الإقليمية والدولية كما جرى في القرن التاسع عشر بالنسبة للإمبراطورية البريطانية في جنوب اليمن، وسلطة العثمانيين ثم الإمامة في شمال اليمن وكما حدث أيضا في بداية القرن الحادي والعشرين بالنسبة للمليشيا الحوثية الإمامية الصاعدة.
وهو صعود يحتوي في أعماقه على سقوط حتمي في المستقبل القريب، بينما السقوط الجلي لليمن هو جزء من الماضي. انطلاقا من أن اليمن لا يسقط ولن يسقط، بل تنهار فيه السلطات والدول حالما تخرج عن منطق إرادته المتراكمة في مرجعياته الذاتية الكبرى. وهي مرجعيات تشكل العصب الروحي لوجوده التاريخي وكينونته الثقافية، أي لمضمون هويته العامة والخاصة.
ذلك يعني أن سقوط اليمن تحت السيطرة العثمانية ثم الإمامية وكذلك تحت السيطرة البريطانية في جنوب الوطن قبل قرن من الزمن، كان تعبيرا عن مستوى وحجم الخلل الذي لازم وجوده ضمن سلطات الآئمه ، قبل الف عام، بينما كان سقوطه الثاني تحت السيطرة الحوثية بعد مرور قرن آخر من الزمن، تعبيرا عن حجم ونوعية الخلل الجوهري في بنيته الجمهوريه الحديثة.
وبهذا المعنى لم يكن «تحريره» من السيطرة التركية ووقوعه تحت «الإمامة» والاحتلال البريطاني في بداية القرن العشرين، ثم «تحريره» من السيطرة الشمولية الشطرية الشمولية ووقوعه تحت «السيطرة الحوثية الإمامية» عام في القرن الحادي والعشرين، سوى التكرار الفج للحقيقة القائلة، بأن ما حدث آنذاك وما يحدث الآن هو «استعداد لما فينا»، ومن ثم «فما أثر فينا غيرنا». بعبارة أخرى، إن الأحداث الدامية والمأساة التاريخية التي لازمت نشوء وتكون اليمن الجمهوري هو دليل على طبيعة وحجم الخلل الذي أصاب نوعية ابتعاده عن مرجعياته الذاتية الكبرى.
فقد كان فقدان اليمن لمرجعياته الذاتية نتيجة مترتبة على سيادة الاحزاب والايديولوجيا التقاليد الراديكالية عابرة للهويه الوطنيه وجعلت «من الشمولية» أسلوبا وحيدا في التعامل مع الدولة والمجتمع والثقافة، أي مع كل ما لا يمكنه العيش بمعايير العقلانية إلا من خلال تراكمه المستمر بوصفه احترافا مهذبا لوحدة النظام والحرية.
وإذا كانت فكرة «المرجعيات الذاتية» تبدو غاية في البعد عن «واقع الحياة» العادية، فلأن الرؤية السياسية للأحزاب و«النخب اليمنيه » لا ترتقي في الواقع عن مستوى «الحياة العادية».
بينما يبرهن تاريخ الأمم الكبرى والحية، بما في ذلك تاريخنا العربي وتاريخ اليمن منه بالأخص، بان أكثر الصيغ الفلسفية غلواء في رؤيتها للمستقبل هي الأكثر دقة من أكثر الأحكام نفعية. ومن ثم لا يعني حصر أسباب السقوط والهبوط بحالات جزئية أو عارضة مهما كان حجمها الفعلي.
فيما قضية «المليشيا الحوثية » «والسلاليه » والإمامية» وغيرها، سوى البقاء والعمل بمقاييس الرؤية «السياسية» المسطحة. وحتى في حالة افتراض تأثيرها الفعلي، فإنها تشير إلى خيانة تاريخية أكثر مما تشير إلى خيانة جزئية. بمعنى أنها تعكس مستوى ونوعية الخروج على منطق الأمان والأمانة. وهو خروج لا يمكن أن يحدث لحاله. بعبارة أخرى، إن خيانة الشعب ومختلف مكوناته لمصالحه هو النتيجة المترتبة على خروج السلطة والدولة عن منطق مرجعيات اليمن الذاتية.
فسقوط الدول هو في الأغلب النتاج المباشر وغير المباشر لانحطاط الأمم. وهو انحطاط متنوع الأشكال والصفات لكنه يشترك في كونه النتاج الحتمي الملازم لانحطاط النخب. حيث تتحمل الطبقه السياسية بشكل خاص مسؤولية مباشرة عن السقوط، بينما تتحمل النخب الفكرية والثقافية والنضاليه والعلمية مسؤولية غير مباشرة.
وفي الحصيلة لا يعني استسلام المجتمع للسقوط سوى «انتصار» الانحطاط الذاتي للجميع. وهي حالة حدثت وتحدث وسوف تحدث لجميع الشعوب والدول والأمم حالما تفتقد الحد الضروري من الإجماع على مرجعيات متسامية ومبادئ عملية جامعة.