محمد صلاح
نوفمبر: استقلال اليمن والجزيرة
الأحد 5 ديسمبر 2021 الساعة 11:04

كان الاهتمام الذي أبداه الاحتلال البريطاني بموقع اليمن نابعا من نظرته الاستراتيجية، وأطماعه الإمبريالية، في استغلاله للمنطقة من أجل تحقيق أهدافه الاستعمارية، بحيث لم يُظهر أي اهتمام بالجوانب التي تخدم المجتمع، سواء في الجانب التعليمي، أو الثقافي، أو الاقتصادي، إلا بقدر ما يسهل سيطرته، وترسيخ قدميه.
تمكَّن البريطانيون -من خلال تمركزهم في سواحل اليمن الجنوبية- من مطاردة القوات البرتغالية في الخليج العربي، وفي الوقت ذاته أتاح لهم التوسّع والتمدد في بقية شبه الجزيرة العربية، وتتضح أهمية دور الساحل اليمني بجلاء خلال الحربيين العالميتين.
لقد لعب موقع اليمن الإستراتيجي دورا كبيرا في رسم مسيرته التاريخية، ووضعه في مواجهة متواصلة -طوال عصور التاريخ- مع القوى الإمبراطورية، فهذه "الشرور الكثيرة التي أصابت اليمن، وكان بعض أسبابها الرئيس، ليس بُعد اليمن عن الوطن العربي، وليس هامشية موقعه، وضعف قدرته على الفعل، بل على العكس من ذلك على طول الخط، فالشرور أصابته بسبب موقعه الجغرافي الحضاري المهم، وبسبب مركزيته في التأثير على بقية المناطق العربية في الشمال أو في الغرب، وبسبب قدرته - إن امتلك استقلاله - على الفعل." [د. محمد الرميحي  "أهداف الوحدة تنجز على قدر عزم أهلها"- مجلة العربي الكويتية، عدد 380، يوليو 1990م].
ففي الحرب العالمية الأولى، أثناءها وبعدها، فإن قاعدة عدن، التي كانت تحت السيطرة الإنكليزية -كما يقول الدكتور فاروق أباظة- "زادت أهميتها الاستراتيجية، ولذلك عملت بريطانيا على تحويلها من قاعدة عسكرية فقط إلى جوية أيضاً، زيادة في قوة فاعليتها والاحتفاظ بها للدفاع عن المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، فيما لو فكّرت الدول الأوروبية في منافستها، وزادت من تحصيناتها، وزوّدتها بأحدث الأسلحة التي ظهرت خلال الحرب، حتى أصبحت أحدث قاعدة عسكرية في المستعمرات البريطانية كلها". وما إن فقدوا قاعدتهم في عدن بعد الثورة اليمنية وإعلان الاستقلال في نوفمبر 1967م، حتى أخلى الإنكليز كل مناطق تواجدهم في الخليج العربي.
لم يقدم المحتل البريطاني لعدن شيئا يذكر لمساعدتها على التطوّر، والتقدّم. وطوال فترة وجوده، لم تنل عدن خيرا في ظل الاستعمار، ف"عدن مستعمرة من مستعمرات التاج البريطاني تحمّلت ما تحملته المستعمرات من العنف والإرهاق، وظل بنوها 115 سنة محرومين من نعمة العلم ونعمة الحرية، وقد ضيّقت عليهم وسائل الرزق حتى اشتغلوا بلقمة العيش طوال هذه السنوات لا يفكرون في غيرها، في غير هذه اللقمة الجافة والثوب الخلق" [د. أحمد علي الهمداني "محمد علي لقمان المحامي رائد حركة التنوير في اليمن"، ص106].
ولقد يتوهّم البعض بأن المحتل الإنكليزي قدّم للمناطق المحتلة ما يمكن أن يساهم في التطوّر والتقدّم، كما فعل في بعض المناطق الأخرى من العالم التي كانت خاضعة له، لكن الحقيقة التاريخية تؤكد بأن المحتل لم يقدّم للبلد شيئا، وكلما سعى له هو فتح عدن للأجانب، والاستفادة من الإمكانات التي تمتلكها، بينما ظل سكان المدينة يعيشون في وضع سياسي، واقتصادي، وتعليمي منهار، ويؤكد ذلك الأستاذ محمد علي لقمان بقوله: "نجد أن أبناء البلد هذا لم يرتفع مستواهم المعيشي، وربما انحط في المستقبل القريب، بسبب مصافي البترول، وارتفاع ثمن المعيشة، أما الأجنبي فهو السيّد المطاع بيده التجارة والأرباح والمصانع والملاحة والوظائف العالية كلها تقريباً، إذْ حصة العدنيين فيها بنسبة 4 إلى 85" [محمد علي لقمان "عدن تطلب الحكم الذاتي"، ص222، "المجاهد محمد علي لقمان المحامي رائد النهضة الفكرية والأدبية الحديثة في اليمن"، "الأعمال المختارة"، جمع وإعداد ودراسة: د. أحمد علي الهمداني، طبعة أولى، 2005].
ويضيف المحامي لقمان حول استغلال الهند لعدن أثناء تبعية الأخيرة لها تحت التاج البريطاني: "الهنود حكموا عدن 100 سنة، لم يعملوا لها في خلالها شيئاً مذكورا من الخير والإصلاح، واستغلوا جميع خيراتها لأنفسهم، وبعد أن استقلت الهند تحوّلت عدن إلى وزارة المستعمرات في لندن، وهذه الوزارة تعيّن الحاكم العام" [المصدر نفسه].
 ويتساءل الأستاذ لقمان، بعد مرور 115 عاما من الاحتلال البريطاني لمدينة عدن، بقوله: "فماذا أفادت عدن من كل هؤلاء الأجانب خلال 115 سنة؟". ويجيب بقوله "لم يترك الأجانب أي أثر يذكر".
يظهر تاريخ الحركة الوطنية، وسيرة رجالها، بأنهم كانوا ينظرون إلى اليمن باعتبارها كياناً واحداً، رغم التجزؤ السياسي بسبب الاستعمار والحكم الإمامي، وذلك من خلال مواقفهم الساعية للإصلاح، والمنادية إلى تغيير الأوضاع السياسية في شمال اليمن، ومن أمثلة ذلك مواقف الأستاذ أحمد سعيد الأصج، رئيس نادي الإصلاح العربي في عدن، وهي لا تختلف في ذلك عن مواقف الأستاذ لقمان وغيره من روّاد التنوير في المدينة.
حيث تؤكد رسائل الأصنج  للشيخ عبدالعزيز الثعالبي -أحد روّاد النهضة العربية، أواخر عام 1934م- وتبادلهما وجهات النظر حول عملية إصلاح الأوضاع في اليمن، على أن الأول قد رفع إلى الإمام العديد من النصائح، والمطالب الداعية إلى التغيير.
كما تصرّح رسائل الأصنج بوجود اتصال وتواصل بين الشخصيات اليمنية في الشمال والجنوب، منذ منتصف الثلاثينات، التي يجمعها هدف واحد هو إصلاح الأحوال في البلد عامة، حيث يطلب الأول من الثاني بأن يكتب للسياسيين في الداخل اليمني، من أمثال عبدالله الوزير وولي العهد أحمد، يحثهم على الإصلاحات، ويدعوهم إلى تحقيقها.
 وفي إحدى رسائله يصف الوزير بأنه من الذين يفهمون دقائق الأمور، ويرغبون في ترقية الشعب والمملكة:  "وتكتبون إليه من حين لآخر، تبذلون له النصائح والإرشادات، فإنه يحب ذلك، وحضرته الآن حاكم أو عامل في الحديدة، غير أنكم إذا كتبتم له فيكون عن طريقنا" [عبدالعزيز الثعالبي "الرحلة اليمنية"، ص234]. نجد في الفقرة الأخيرة بأن الأصنج كان على علاقة وتنسيق مع القوى اليمنية المعارضة لحكم الإمام.. ثم يضيف في رسالته: "ولا بأس سيدي أن تكتبوا لسمو ولي عهد الإمام سيف الإسلام أحمد، فإن قبل  نصائحكم، فلا تضنوا مولاي ببعض كلمات منكم عسى أن يكون لها أثرها الفعال فتثابون على ذلك" [المصدر والصفحة نفسهما].
وبعد نقاش بينه وبين الثعالبي حول الإصلاحات في اليمن،  ووضع برنامج حول ذلك، فإنه يطلب من الثعالبي -بحكم خبرته، ومعرفته، وممارسته لشؤون السياسة- بأن يضع البرنامج الإصلاحي لليمن، وسوف تتم طباعته وتداوله، بحيث يقول في رسالته حول ذلك: "أما مسألة وضع تقرير ضافٍ، يتضمن مطالب الإصلاحات في اليمن يشمل المالية والجيش والتعليم والإدارة والزراعة والصناعة والتجارة والمواصلات وتربية الشعب على قواعد السياسة الاقتصادية، فأمر جليل وخطة محمودة، ولكن هذه الأمور لا يفصلها إلا حكيم خبير مثل سيادتكم، فهل لكم يا حضرة الزعيم المفدّى أن تتكرموا بشرح ضافٍ في الموضوع؟ يمكننا بعد ذلك أن نطبعه ونجعله نسخاً تُوزّع على كل عامل وأمير وصاحب أمر في طول اليمن وعرضها، أو أن نعرضه أولاً على مولانا الإمام وأنجاله وبني عمومته ومن يهمه أمر اليمن. نعم سيدي، إنكم ستسدون معروفاً وتضيفون بعملكم هذا مكرمة جديدة تضاف إلى سجل أعمالكم الخالدة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً." [المصدر والصفحة نفسهما].
في منتصف الأربعينات، احتضنت مدينة عدن طلائع رجال الحركة الوطنية، القادمين من الشمال، والمنادين بتغيير نظام الإمامة، حيث استقبلتهم المدينة، واستطاعوا من خلال ما أتاحته المنتديات الثقافية، والأندية الأدبية بأن يرفعوا مطالبهم، ويواجهوا سلطات الإمام يحيى، بحيث عملت الأندية والمنتديات على تسهيل "دعم نشاط حركة الأحرار اليمنيين، وعززت نشاط الحركة الوطنية اليمنية، وتصدّت لمخططات الاستعمار التي استهدفت عزل عدن عن سائر المناطق اليمنية، وفضحت أساليب الاستبداد والقهر التي مارسها الحُكام في شمال الوطن وجنوبه" [علوي عبدالله طاهر، "الهيئات الشعبية اليمنية وأثرها في الحياة الثقافية والسياسية"، ص175، "مجلة الإكليل"، عدد 1، السنة السادسة، 1986].
امتد نشاط وتأثير حركة الأحرار اليمنيين في مدينة عدن على كافة الرقعة اليمنية، سواء الواقعة في الشمال تحت سلطة الإمامة، أو المناطق اليمنية القابعة تحت قبضة الاستعمار، وخلقت وعيا بالدستور، وضرورة التغيير في المحميات والسلطنات "فما كانت تكتبه في تلك الفترة الصحف العدنية حول الدستور لليمن والمطالبة بإلغاء النظام الإقطاعي والحكم الفردي والظلم في تلك البلاد كان يقرأ في لحج، فخلق وعياً دستورياً وشعوراً بالجور وأملاً في العدل" [محمد علي لقمان، "قصة الدستور اللحجي"، ص149، "الأعمال المختارة"، جمع وإعداد د. أحمد علي الهمداني، طبعة أولى، 2005م].
كانت الطلائع اليمنية تدرك بأن تغيير الأوضاع في اليمن، من طرد للمستعمر في الجنوب وتغيير لنظام الإمامة في الشمال، لن يتم إلا متى وحّدت القوى الوطنية رؤيتها وأهدافها في تيار واحد.
ومن العجيب أن يسعى البعض في زمن ثورة المعلومات، وتكنولوجيا الاتصالات، التي من المفترض أن تعمل على خلق وعي عام وإجماع وطني على القضايا المصيرية، للمطالبة باتخاذ القروية والانعزالية سياسة، ووسيلة للنضال ومقاومة الانقلاب!
ولقد يتوهم البعض بأن الانفصال سوف يعيد الجنوب كما كان كتلة واحدة، على ما كان قبل عام 1990، غير مدرك أن القوى التي تمتلك الدعم، والمال، والسلاح تقف بالضد من مشروع ثورة أكتوبر، إضافة إلى استحالة تحقيق ذلك، لأنه يتنافى مع كل طموحات أبناء اليمن وتضحياتهم طوال المائة عام الأخيرة.
استطاعت اليمن بعد جولات من الصراعات والحروب أن تطرد المستعمر البريطاني صاغرا، ولم يكن استقلال جنوب اليمن ضربة للمحتل الإنكليزي، وأطماعه في بلادنا، بل كان يحمل ردا على هزيمة العرب في 5 يونيو 67 من قبل الكيان الصهيوني، وإعلان استقلال بقية الإمارات المتناثرة على الخليج العربي، بحيث كان خروج بريطانيا من عدن إيذانا بانسحابها من بقية أرجاء الجزيرة العربية.
لا يمكن لليمن أن تستفيد من أهمية موقعها الجغرافي المطل على البحار إلا متى كانت كلها تحت سيطرة حكومة مركزية واحدة، وبدون ذلك فإن تفكك الجغرافيا، وانقسام السلطة يحول دون الاستفادة من الموقع الجغرافي، كما أن تعدد الدويلات، وما يستتبعه من صراع واقتتال فيما بينها من أجل السيطرة، وضم مساحة جغرافية أوسع يعمل على إهدار ما يتيحه الموقع من فرص يوفّرها للتنمية، إضافة إلى أن ذلك سوف يجعل من اليمن بؤرة تستقطب كل القوى الإقليمية لتصفية خلافاتها وصراعاتها.

*عن موقع بلقيس

مقالات
أبو قصي الصبري المرادي
حفيد عامر بن صبر المرادي يدافع عن نفسه أمام آلة الصلف والهمجية!
همدان العليي
تهديدات عبدالملك وفليته.. "الهنجمة نصف القتال"
نبيل الصوفي
عبدالملك والحلم الإيراني.. من عنتريات القتل إلى مرارة الانكشاف
عادل الأحمدي
عبدالله بقشان: سيمفونية التنمية والتعليم
سمير اليوسفي
المصالحة الوطنية: مصير وطن ينتظر القرار
همدان العليي
ثورة ديسمبر.. واحدة من محطات النضال اليمني ضد العنصرية الكهنوتية