ذاتُنا الجمهورية هي امتدادٌ تاريخي لذاتنا الحضارية التي كان اليمني فيها عزيزا بدولته، عظيما بحضارته، مستنيرا بحكمته، قويا بإرادته التي نحتت الصخر.
استوطن اليمني بطموحه عش النسر، وجاور السحاب بأعالي الجبال والهضاب.
بانطلاقه من ذاته أبدع وأنتج، فكان السهل والجبل، والساحل والصحراء، والريف والحضر، والبر والبحر والجزر، كلها زاخرة بالحياة.
يكمن سر هذه الحضارة العظيم ومحورها الأساس قرابة خمسة آلاف عام على أقل تقدير في الإنسان اليمني المعتز بذاته، المؤمن بوجوده الفاعل على امتداد جغرافيا اليمن، لتصبح اليمن بلاد الأحلام، والعربية السعيدة.
الذات اليمنية بامتدادها الحضاري الجمهوري هي الكفيل بعودة اليمن سعيدا كسالف عهده إن شاء الله، فقد طال أمد غيابها وسباتها، وحيَّ على عهد اليمن القادم.
الذات والمعركة
لايغيب على أحد أن المستجدات والأحداث وخاصة الأخيرة بمأرب وشبوة قد تركت ظلالها على قوة التماسك للصف الجمهوري عموما، لتفت في صلابته،
وليس خطر تلك المستجدات في تقدم قوات العدو وتراجعنا بعدة مناطق ومواقع معينة.
خطرها الأكبر والأشد أنها تخلخل الثقة في المسلّمات، وتزعزع الثوابت في القلوب والعقول بما يتعلق بعدالة القضية وقداسة المعركة ومصيريتها.
التقدم والتراجع في ذاته لا يشكل الخطر الأكبر رغم ما يفضي إليه من خسائر وتضحيات وانتشاء للعدو بعد خيبات متلاحقة لأكثر من عام ونصف على أطراف مأرب شمالا وغربا وجنوب غرب. حيث يبقى التقدم والتراجع جولة من جولات الكر والفر تتداول بيننا وبين عدونا في طريق النصر النهائي لذاتنا الجمهورية.
ثقتنا بالنصر منبثقة من أننا لا نواجه خصوما طامعين على أرض أخرى غير أرضنا، ولا نصارعهم للسيطرة على طرف ثالث، إنما نكافحهم عن ذاتنا الحضارية الجمهورية، فنحن لسنا طرفا في الصراع فقط، إنما نحن موضوع الصراع ذاته.
لذلك لا ينحسم الصراع بمجرد مقارنة ما نملك بما يملكون من عتاد وعدة، ودعمٍ خفيٍ وظاهرٍ من هنا أو هناك، أو بتقدم وتراجع فتراب اليمن كله مقدس يجب تحريره وتطهيره منهم. إننا نملك بحكم طبيعة الصراع نفسه ماةلا يمكنهم أن يملكوه، فدوافع الصراع لدينا تنطلق من إيماننا المطلق بقضيتنا العادلة وحق شعبنا اليمني الكريم في الحرية والكرامة.
ودوافع الصراع لديه قائمة على البغي وادعاء حق مزعوم لكيان أغراب دخلاء على ذاتنا الحضارية والجمهورية، ويظل رهينا لعقدة النقص التي لا تفارقه تجاه اليمن واليمنيين خائفا قلقا من أي لحظة انبعاث لتلك الذات وهو يرى مؤشراتها في حركة الوعي القومي المتعاظم.
إذاً نحن بذاتنا الحضارية الجمهورية موضوع الصراع وأرضه وميدانه، وامتلاك الذات هنا وتماسكها والانطلاق منها للمواجهة هو أعظم قوة، وأمضى سلاح، وأقوم قيلا، مهما بلغت قوة مشروع إيران وأدواتها السلالية القادمة من غبار التاريخ.
امتلاك الذات والانطلاق منها هو حصن الأمان،
وهو العدة في أي مواجهة، هو الانتماء باليقين للوطن، والإيمان العميق بعدالة القضية، والإدراك المحيط بقداسة المعركة ومصيريتها.
هو الاعتزاز بتميز الذات ووجودها الفاعل لمواجهة التحديات، اعتزاز بالتميز على العدو واحتقاره علوا وسموا وقيما ومشروعا، مع عدم الغلفة عنه تحركا وإعدادا.
ولأن امتلاك الذات حاسم في المعركة يجب أن يكون التماسك أقوى ما يكون لمواجهة هذه المستجدات والاحداث الأخيرة.
لأن العدو يدرك بقوة أن ضمانه الأساسي لا يتأتى من عتاده وعدته، ولكنه يحقق المكتسبات من تفتيت عرى تماسك ذاتنا وتفتتها والتسلل من الفراغات التي تفتحها صراعات الذات في ثغراتها الاجتماعية والامنية والسياسية.
بمعنى أن العدو يحقق ذلك بتصفية الانتماء العام لذاتنا وتكسيره وإثارة الانتماءات المعارضة أو الثانوية، وتذويب الشعور بالتميز عليه لنقف في مربع الإعجاب والدهشة التي تروجها آلة إعلامه الحربي، لنستبدل العزة بالهوان، ونجعل مما يروج له عن نفسه معيارية لقياس ما لدينا، ومتى ينتصر من فقد العزة ووقع في الهوان أو الإعجاب بعدوه.
بعد هذه الخطوة يتساقط البعض عن التعلق بالذات، ويصاب آخرون بحالة من الإحباط النفسي الدافع لردود فعل غير متزنة تجاه ذاتهم، فيسعى العدو لاستيعاب تلك الشراذم المتساقطة في إطار انتماءٍ صوريٍ يذيبُ ما تبقى من شعور بالتميز لديهم، ليعزز شعور دهشتهم وإعجابهم به مع فغر أفواههم.
وحتى لحظة ندمهم التي لن تتأخر تحت وطأة عدو عنصري يستهدف وجودهم، لا ينفكون عن تقديم القرابين التي ضنوا بها يوما عن الانتصار لذاتهم الكريمة قبل سقوطهم في الهوان.
يقدمون تلك القرابين بصغار واستجداء لحفظ وجودهم لا أكثر، أما كرامتهم فقد أصبحت أثرا بعد عين.
ويستمر العدو كذلك مع المحبطين من خلال إعلامه الحربي لتعزيز ردود فعلهم ليمعنوا في جلد ذاتنا ذاتهم، ويستمروا في توزيع الاتهامات والقراءات السطحية للأحداث. وهو استمرار في زعزعة تماسك ذاتنا الجمهورية وتفتيتها في كل ميادين المواجهة.
سيكون لنا وقفات في حلقات متتابعة ضمن سلسلة حرب الشعب الشاملة مع "ذاتنا النابضة، وذاتنا المنتفضة، والتائهون عن الذات، وحنين الذات، والذات الغائبة والناطقة" إن شاء الله تعالى.
ختاما بما أن ذاتنا الحضارية الجمهورية هي موضوع الصراع وأرضه وميدانه: فإن الحفاظ على تماسكها، وتعزيز ترابطها، بالتخلي عن الصراع الذاتي البيني بين مكوناتها هو خطوة "الألف ميل" الأولى لإنقاذ الوضع وإيقاف الانهيار حتى استعادة دولتنا وانتصار ذاتنا الجمهورية.