عراقيون كثر يحنون لأيام صدام حسين، وليبيون يتمنون يوماً من أيام القذافي، وكثير من اليمنيين يترحمون على علي عبدالله صالح، بعد أن ذاقوا مُرّ العيش مع ظلم وفساد الحوثي، وضعف وترهل الشرعية. وقبل عامين كنت راكباً مع صاحب تاكسي وسط العاصمة التونسية، وقال لي: على أيام بن علي كنا في نعمة.
وقبل أسابيع قال برلماني تونسي حانق «هرمنا في انتظار هاته اللحظة التاريخية» يقصد لحظة تجميد عمل برلمان البلاد، وهي عبارة التونسي الذي هرم هو الآخر في انتظار «هاته اللحظة التاريخية» لحظة سقوط نظام بن علي، قبل سنوات.
والمفارقة أن الكثير من الذين يحنون اليوم لعهد ما قبل «الربيع العربي» هم الذين نزلوا إلى الشوارع يحتفلون بسقوط «الديكتاتورية» واليمني الذي يكتب اليوم عن «نكبة» 2011 هو اليمني الذي كان معتصماً في ساحة التغيير، ويهتف: «الشعب يريد...».
ما الذي جرى؟
هل هي حكاية الحنين للماضي، أم هو الهروب من الحاضر، أم الخوف من المستقبل؟ أم أن الأمر مرتبط بخيبة الأمل وانهيار الأحلام؟
هل كان الهتاف ضد الديكتاتورية هو الصح، أم أن الحنين إلى أيام الأمن والظروف المعيشية المعقولة هو الصواب؟
ولماذا ثار الذين ثاروا إذا كانوا سيعودون للحنين، ولماذا يحنون إلى ما ثاروا هم عليه، وهل أخطؤوا في الثورة، أم أخطؤوا بالندم؟
هل هي الصورة القاتمة التي كانوا يرون البلاد عليها قبل سقوط النظام؟ أم أنها الصورة الوردية التي كانوا يتصورون البلاد عليها بعد السقوط؟
هل كانت الصورتان مجرد لوحتين رسمهما فنان يتبع المعارضة السياسية لخداع الجمهور، أم أن الصورة الأولى كانت ماضي النظام الذي حاول إخفاءه والصورة الثانية كانت مستقبل المعارضة الذي تم تزويقه؟
تساؤلات كثيرة لا توجد إجابة واحدة عليها، بل ربما كانت إثارة السؤال في – هذه المرحلة – أهم من الإجابة عليه، إذ أن المنطقة لا تزال في وضع لا يسمح باجتراح الإجابات اليقينية، في هذه الفترة المليئة بالكثير من التعقيد والغموض والأسئلة المعلقة والشك الذي يضرب القيم والأفكار والثوابت، نتيجة لسلسلة من الظروف التي تتعاقب فيها الأسباب والنتائج، في منطقة يؤدي فيها الاضطراب الاقتصادي إلى آخر سياسي، والسياسي إلى عسكري، والعسكري إلى اجتماعي، الأمر الذي يعيد إنتاج سلسلة من الأسباب والنتائج التي تتوالد من بعضها، تماماً مثلما تولّد تصرفاتُ النظام ثورةَ المعارضين، ثم يؤدي سلوكُ المعارضة إلى الحنين مجدداً لأيام النظام، لتتسم المرحلة بشيء من القلق والتوتر والصراع المستمر بين الأنظمة والمعارضات.
إن أهم مظاهر الإشكال ـ هنا – أن الحاكم يرى أن القوة – لا العدل – هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على النظام، فيما ترى المعارضة أن الشارع – لا الصندوق – هو السبيل الوحيد لإسقاطه، أو لنقل إن الحاكم يرى الجيش هو وسيلة بقاء النظام، فيما ترى المعارضة أن الجمهور هو وسيلة تغييره، إضافة إلى أن الحاكم يرى أن وصول المعارضة للسلطة تهديد وجودي له، فيما ترى المعارضة أن بقاء النظام في السلطة يعني القضاء على حياتها السياسية، وهكذا يدخل النظام والمعارضة، والعدل والقوة، والجيش والجمهور، والدولة والمليشيا في دائرة جَمَل معصوب العينيين يدور حول معصرته، فلا هو توقف، ولا عرف لماذا يدور.
وكما يدور الجمل يدور الزمن، غير أن الجمل يدور أعمى، ويموت بعد دوران طويل، فيم الزمن يدور مفتوح الصفحات، ويتجدد خلال دورانه، وإذا هَرِم الزمن تمخض عنه زمن آخر شاب، لتتجدد معه الحياة والقيم والأفكار، وتعاد صياغة الثوابت والتقاليد، وتخرج سلطة جديدة من عباءة أخرى قديمة، ومنظومة شابة من بطن أخرى عجوز.
ربما كان هذا الاضطراب الذي تعيشه المنطقة هو نتيجة حتمية لاحتضار الزمن العجوز الذي فقد ملكاته المادية والروحية والذهنية، ليتهيأ زمن آخر بملكات شابة، وما هذا الدمار المادي والخراب الروحي الذي نعيشه إلا لتصارع القوى على تصدر المشهد الجديد المتشكل، حيث يحتدم الصراع في الفترة التي تفصل بين مشهدي الغروب والشروق.
كان أزدشير يقول: «إذا رغبت الملوك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة» وها نحن نشهد المظالم تتوالد من بعضها، نتيجة للرغبات المتصارعة، ذلك أن الظالمين من المعارضة يستغلون مظلومية الجمهور، ليحلوا محل الظالمين من النظام، لا لينصفوا الجمهور المظلوم الذي يتغير الممثلون في العرض الذي يمر عليه، دون تغيير حقيقي في جوهر هذه المسرحية التراجيدية.
وكما أن بعض الحكام لا يعرف أسس الحكم الرشيد، فإن بعض الثوار لا يعرف أسس الثورة الرشيدة، وكما أن الحكام لم يستطيعوا الحفاظ على النظام السابق فإن الثوار لم يستطيعوا بناء نظام لاحق.
هل يعني ذلك اليأس والسقوط في دائرة الجمل معصوب العينين؟
لا، بطبيعة الحال، ولكن تلك الفترة ستستمر، إلى أن يتعلم الحاكم كيف ينال طاعة المحكوم بالعدل، ويتعلم المحكوم كيف يتحقق العدل بالانضباط، وتتراكم ثقافة يكون الحاكم فيها هو القانون، والمحكوم هو البلد حكومة وشعباً.
كان طه حسين يرى أن القول القديم: «الناس على دين ملوكهم» لم يعد صالحاً لزماننا الذي ينبغي أن نعكس فيه المقولة، ليصبح «الملوك على دين شعوبهم». والواقع أن الشعوب لم تعد تستريح لدين الحاكم المتسلط، ولكن بالمقابل فإن دين الثوار المنفلتين ليس مغرياً، ولذا نحن في حاجة إلى دين القانون الذي يضبط سلوك الاثنين: الحاكم والمحكوم، وهنا ستخف التجاوزات والفوارق والامتيازات، وسيؤدي كلٌ وظيفته حسب القانون، ولن يهتف شخص بسقوط النظام وآخر بالدفاع عنه، وستختفي نظريات المؤامرة والقصة المملة عن «الربيع العبري» و«الصهاينة العرب» وستتلاشى برامج الردح التلفزيوني، ومنافرات سوق عكاظ، والدعاية والدعاية المضادة، وتخفت الشعارات الطائفية، لتحل محلها برامج عمل تنموية يتنافس فيها المتنافسون.
وحينها فقط سيعرف النظام أن الظلم يحفز على التمرد، وستعرف المعارضة أن التمرد يجلب خراب الأوطان، وسنعرف جميعاً أن الإشكالية التي نعاني منها ليست سياسية وحسب، ولكنها ثقافية واجتماعية، لأن «الديكتاتورية» ـ في منظومتنا السياسية – ليست حكراً على «رئيس النظام» ولكنها تشمل كذلك «زعيم المعارضة» الذي يقضي في منصبه عقوداً طويلة، ثم يطالب برحيل رئيس النظام.
*عن القدس العربي.