أعترف بأن لا شيء يخفف من وطأة اليأس الذي يثقل صدري وكاهلي سوى ذلك الضوء الذي يتراءى من خلف ظلمة المآسي وأدخنة الحروب حاملاً بشارة الأمل بانطلاقة عربية مستقبلية، قادمة هذه المرة من القاعدة الشعبية، ومن إنسان الشارع لا من النخبة التي انطلقت من الأعلى وبقيت معلقة في الهواء، وتاهت مع شعاراتها التي لم تخضع للتطبيق ولا شهد الشعب حضورها في حياته.
وقد ضاعف من أزمة هذه النخبة خلافها مع ذاتها وخلاف الآخرين معها، وأقصد بالآخرين تلك التيارات السياسية المختلفة مع عروبتها وجذورها، والتي دفعها هذا الخلاف أو الاختلاف مع ذاتها الوطنية إلى مسارات أممية من ناحية لدى طرف أو إلى العودة إلى الانكفاء على الماضي لدى أطراف أخرى، وضياع الطريق الصحيح عن هذه القوى جميعاً الواقعية منها والشاردة والمنكفئة، مما أدى إلى احتدام الصراع العنيف فيما بينها من جهة ثم إلى فشلها جميعاً من ناحية ثانية.
وتبدأ الانطلاقة العربية الجديدة بقاعدتها الشعبية من شعور عميق وواثق بأن كل القوى أو التيارات السياسية المشار إليها في مقدمة هذا الحديث قد وعت درس الخلافات وأدركت خطر الشرود عن الواقع والابتعاد عن العمل على إيجاد حلول تتناسب مع مقتضيات الواقع الوطني في لحظته الراهنة تلك التي تتجه إلى تخليص هذا الوطن الذي تنتمي إليه بدلاً من تخليص العالم والاهتمام بتغيير الواقع الرديء من منظور الظروف التي يمليها هذا الواقع مع الاعتراف بما كان عليه الماضي العظيم من قوة وعدالة ونهوض.
لقد أدرك رجل الشارع العربي - وكان لا بد أن يدرك بعد كل التجارب المريرة - أن نخبته لم تكن على مستوى التغيير المطلوب، وأن تضارب برامجها وانتماءاتها قد جعل جهد كل طرف يتمحور حول هدم مشروع الطرف الآخر، ولا ننسى أن السعي إلى الاستيلاء على السلطة كان هدفها جميعاً وهمها الأكبر، وكأنّ السلطة لدى السياسي العربي هي غاية الغايات، لكن ما يكاد يصل إليها حتى تتحول إلى شغله الشاغل وحينها ينسى كل الشعارات والأحلام الوردية النبيلة.
لقد وعى الشعب العربي المشكلة، مشكلة بقائه في آخر سلم التقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وما أظن إلاَّ أن نُخَبه السياسية تشارك شعبها هذا الوعي، وبات العقلاء في صفوفها يدركون أخطاءهم ويعود إليهم رشدهم وصاروا على استعداد لأن يكونوا جزءاً من هذا الشعب وأبناء له لا أوصياء عليه ولا باحثين عن طرق أو وسائل توصلهم إلى الحكم ولو بالحديد والنار، ومسألة الوصول إلى الحكم ليست في برنامج المناضل الحقيقي. ولو قد نجا المناضلون العرب من هذا المرض لما تلوث بعضهم بأوساخ السلطة ولما قُتِل منهم من قُتل، وتشرد منهم من تشرّد، ويشكل الوعي بهذه التجربة المريرة مدخلاً حقيقياً إلى الانطلاقة العربية الجديدة التي تعطي ولاءها كله للوطن العربي الكبير وتسعى إلى تحقيق ما فاته في العقود الماضية من تقدم ملموس وتنمية شاملة وشعور تام وكامل بالمواطنة والتعايش الآمن والمطرد.
ولا أخفي أنني عندما أدخل في حوار مع نماذج من أبناء الشعب العاديين. سواء في المدينة والقرية أفاجأ بمستوى الوعي السياسي وعمق الرؤية فيما يعرفونه عن دور القوى الخارجية المعادية وعن الأشراك التي ينصبونها على طريق التحول، وما قاله لي أحدهم:
إذا ما نجحنا وعمّ الشعور بأهمية أن يتوحّد أبناء هذه الأمة الواحدة فسيكون الفضل لهؤلاء الأعداء الطامعين الذين أيقظوا وعينا بأفعالهم ومؤامراتهم، وإذا كان بعض السياسيين العرب لم يصلوا بعد إلى إدراك هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس فإن المواطن العادي غير المتسيس وغير المثقف يفوقهم إدراكاً ووطنية وعروبة، وإن زمن خداع هذه الشريحة التي هي في حجم الوطن الكبير قد ولّى وغاب إلى غير رجعة.